"التَّحصيـــل دار" يُفَكِّــر بِتَركيــب عـدًّادات على الأنـوف
قد تَرِد أحياناً في بعض ما أكتب مصطلحات كانت متداولة عِند الأردنيين ولكنها باتت لا تستخدم رغم دلالاتها المعبرة ولأن بعضها قد لا يكون عربياً كما في مصطلح ” تحصيل دار “.
التحصيل دار: هو اسم تركي كان يُطلق على جامع الضرائب أيام الدولة العثمانية , فقد كان اسمه عند الاردنيين في ذلك الزمان يرتبط بالخوف والرعب إضافة الى جمع الأموال التي كانت شبه معدومة في جيوب المواطنين فكان يأتي الى القرية ومعه مجموعة من العسكر الفرسان وينزل في بيت المختار ثم يطلب المواطنين المجيء إليه لتأدية ما عليهم من ضرائب على الارض والحلال فلا يستطيعون. فيبدأ بالتنقل بين بيوت القرية وأرباب البيوت فارّين من وجهه وعندما يدخل البيت لا يقبل بالجلوس إلّا على ثلاث أو أربع فرشات ويطلب من أهل البيت ذبح ذبيحة له ولفرسانه وإن تعذّرت الذبيحة فالدجاج ويبقى على هذه الحال حتى يُجبر الناس على بيع بعض حلالهم وفراشهم وحبوبهم لسداد الضرائب المفروضة عليهم.
هذا هو “التحصيل دار” العثماني، ولكن هذا المصطلح تطوّر الآن ليصبح “الجابي” في هذا الزمان.
إن نظرة مقارنة بين “التحصيل دار” العثماني و”الجابي” الحالي تُرينا مقدار التشابه بين الإثنين مع فارق بسيط و مِيزة خاصّة لكلّ منهما فالفارق هو أن “التحصيل دار” كان يلزمه النزول إلى القرية لجمع الضّرائب من المواطنين لكن “الجابي” اليوم يجلس على منابع المال ومصادرها فيأخذ ما يُريد منها ويقتطع ما تشتهيه نفسه فهو الذي يضع الضرائب على الحدود والجمارك والضرائب على الرواتب والكهرباء والملابس والمحروقات ورغيف الخبز وجرعة الماء وإلى غير ذلك مما يخطر بالبال ومما لا يخطر، أما الميزة الخاصة بكل منهما أن “التحصيل دار” كانت لا تراه القرية ولا تكتوي بناره سوى مرة في السنة وضرائبه على أشياء محدودة لكن “الجابي” اليوم صورته مرسومة دائماً على شبكة عين كل مواطن يراها في النهار ويحلم بها في الليل أثناء نومه كما أن “الجابي” متفرغ فقط لإحصاء كل شاردة وواردة لم تخضع بعد للضريبة، ومعه طاقم كل واحد منهم يحمل عقلاً وحاسوباً يُحصي مستلزمات المواطنين ليُخضِعوها للضريبة بدءاً من الإبرة والخيط مروراً بلقمة العيش وصولاً إلى كفنه عندما يموت وكلفة قبره إن كان طويلاً أو بديناً وكم سيحتاج من الأرض التي سيمكث فيها أربعين عاماً قبل إعادة استصلاحها من جديد.
نعم:
إن هذا “الجابي” الذي نتحدث عنه لم يُعيّن في الأصل جابياً وإنّما عُيّن مع طاقم معه لوضع استراتيجيات وخطط ترفع من سوِيّة الدولة اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً وسياسياً… إلى غير ذلك، وأن يبني لبنةً جديدة في عمران هذا الوطن الراسخ، تُسعد الوطن والمواطن، يضع استراتيجيات و خطط تفتح آفاقاً جديدة، تُعطي الأمل للمواطن أنّه سيرى ضوءً في نهاية النفق فننتظر منه أننا سنرى بعد كذا سنة سيكون عندنا بترول وبعد كذا سنة سيكون عندنا مصانع وبعد كذا سنة ستعود إيرادات الدولة المُباعة وبعد كذا سنة ستهبط نسبة البطالة بنسبة كذا وبعد كذا سنة سيُصبح الفساد في خبر كان نقرأ عنه في كتب التاريخ.
إن هذا “الجابي” العصري وجد أن الاستراتيجيات والخطط تحتاج إلى جهد وفيها خروج عن النص وخروج عن المألوف ومردودها بطيء، تحتاج إلى صبر وصدر واسع، كما أنها لا تملأ الجيوب في فترة قصيرة لأنه يعرف أنه قد لا يكون في العمر بقيّة وهذه “جمعة مشمشية” فلجأ إلى أقصر الطرق في الجباية لم يترك شاردة ولا واردة إلا فكًّر في وضع ضريبة عليها، ولكن مما لا يخطر على بال أحد أن الصحافة نقلت أن “الجابي” وطاقمه يفكرون بالضرائب على قضايا فيها رِيادة وسَبـق لم يُسجّل لأحد مِمّن سبقهم ومنها:
1) ضريبة على الولادات وذلك برفع تكلفة الولادة في المستشفيات وهنا أرى أن الواجب يقتضي مِنّي النّصح لهذا “الجابي” وطاقمه؛ فأقول: إنه نظراً للظروف الاقتصادية وضِيق ذات اليد عند المواطنين فإنني أنصحه أن يأخذ “فلاج” على الولادات بحيث يأخذ ربع المواليد؛ من كُل أربعة مواليد يأخذ للدولة واحداً يتصرف به كما يشاء يبيعه يؤجره ولا نستطيع دفع أكثر من ذلك.
2) ضريبة على قبور الموتى ورفعها من 100 دينار إلى 250 دينار وهنا أيضاً أنصحه ولضيق ذات اليد أيضاً أن تقوم
البلديات أو يقوم الأهالي متعاونين بحفر مغارة واحـدة أو بئر، ووضـع الموتـى بها دون أكفـان وبأقل المساحات ”
ومن خلقهم أولى بهم”.
3) رفع الدعم عن رغيف الخبز:
فقد ارتأى “التحصيل دار” وطاقمه أن الشّعب يأكل الخبز كثيراً في حين أنًّهم يرون أن مُعدل استهلاك المواطن من الخبز هو رغيف إلى رغيف وربع في اليوم. ومن هنا أسأل أصحاب هذا القرار عن أي مواطن يتحدثون؟
هل وضعوا هذا المُعدل بناء على استهلاك المواطن الذي يأكل في مطعم جبري، ومطعم طواحين الهوا، ومطعم فخر الدين مِمّن يُغمّسون اللحم بحبيبات الخبز ويشربون فوقها ما لذّ وطاب من المشروبات؟
هل وضعوا هذا المُعدّل وفق استهلاكهم هم وأبنائهم مِمّن لا يعرفون إلّا السنكرز، والجلاكسي، والبسكويت المحشي
إنّ هؤلاء لا يعرفون أن غالبية الشعب لا يملأ بطونهم إلا الخُبز المُغمّس بالفول والحمص (القطانة) في فصل الصيف والخبز المُغمّس بالخبيزة (البُقّيلة) والعِلت، والخَردلّة وأعشاب الأرض في فصل الربيع.
إن هؤلاء لا يعرفون أن أغلب الشعب ونتيجة لموروث سابق تجذًّر مع الفقر؛ يأكل الواحد من هذا الشعب ثلاثة أرغفة أو أكثر بأكلة مزنرة واحدة” وأكلة المزنرة لمن لا يعرفها هي الخبز مع البصل الأخضر ويرتشف فوقها جرعة من المخيض(الشنينة) وهو جالس أو يضرب بمعوله الأرض.
إنّ هؤلاء لا يعرفون كل هذا؛ نحن من يعرف كم يأكل المواطن من الخبز وكم تَشخـص عُـيون المواطن وكم يتنهَّد عندما يمر من أمام مطعم مشاوي فتزِلّ نفسـه ويَسيل لُعابه ويكظم حُزنه.
4) وهذه مساعدة مِنّي في زِيادة الضّرائب، وكما قال “الجابي” مَرّة: “المواطن بقدر يدفع”؛ فإنّني أنصحه بطرح عطاء لعدادات تُركّـب على الأنـوف مع مُراعاة نِسبة من الإعفاءات لأن البعض يتنفس كثيراً حتى يرتفع صَدره، والبعض نَفسه قليل؛ ما بطيِّر قشّه، وبهذه الضريبة قد نُريح عقولنا وعقول الجباة أنه لم يبق شيء دون ضريبة، إضافة إلى أننا سندخل موسوعة “قنس” بأننا أقل الدول تلويثاً للبيئة وإخراجاً لثاني أكسيد الكربون.
وفي الختام فلا بُـدّ من الإشارة أن “التحصيل دار” و “الجابي” وجهان لعملةٍ واحدة؛ كِلاهما مُخيف ومُرعب للبلاد والعِباد؛ لا يحمِـل في حقيبته إلا الجُّوع والحُزن والتِّيــه، ولا تحمل إطلالتُه وتقاسيــم وجهه تفسيراً غير التّهديد والوعيد وإن أقسم بالله ثلاثات أنه يُجسِّد النزاهة والشفافية والغيرة على الوطن.
هذا الوطن الذي أصبح أغلب شعبِه يَنطبِـق عليهم مجازاً قولُ الشاعر:
وطاوي ثلاثٍ عاصِب البَطن مُرْملٍ ،،،،،،،،،،، ببيداء لم يعرف بها ساكِنٌ رسما
حُفاة عـراة ما اغتــذوا خُبــز ملــة ،،،،،،،،،،، ولا عرفوا للبُـرّ مُـذ خـلقـوا طعما
لَعلّ “الجابي” لا يعرف أنّ هناك فقراء أضعاف أضعاف الذين يأخذون مساعدات من التنمية الاجتماعية وأن هؤلاء هم من ورد وصفهم في قوله تعالى:
(( للفقراء الذين أحصِروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا))
سنظلُّ أيها الجباة واقِـفيـن كَجِبال شِيحان ومدينة البتراء وقلعة عجلون نُسطِّر تاريخاً ناصعاً لهذا الوطن، نعمل بوجهٍ واحد، ألسنتنا تُـتَرجم ما تفكر به عقولنا وقلوبنا. نؤمن بالله ربّاً، وبمحمد وآل بيته قُـدوة وهُـداة، وبالأردن وطناً وهويّــة مردّدين دائماً “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة”.
الكاتـب: الأستاذ عبدالكريم فضلـو العـزام