فسيفساء المحاصصة
فسيفساء المُحاصصة
د. مراد الكلالدة/ رئيس المنتدى الأردني للتخطيط
عادة ما يستهل الكاتب مقالته بالسرد التاريخي ليسقطه على الواقع ثم يصل الى الإستنتاج، إلا أني سأكسر هذه القاعدة وأبتدء بالمنتهى لأعلن بأني مع الإنسان قبل أن أكون مع الطائفة أو الدين أو الجنسية. فأنا كالكثيرن من الناس، مع المجتمع المنفتح من شتى المنابت والأصول.
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً فسنجد بأن أراضي شرقي النهر قد استقبلت الشركس والشيشان والأرمن والدروز في مطلع القرن التاسع عشر، وقد كانت الغالبية العظمى من المجتمع الأردني في بداية عهد الإمارة 1923 ولغاية النكبة في العام 1948 تتشكل من القبائل من بدو وحضر التي كانت منتشرة في ربوع البلاد. وقد إستعان الملك عبد الله الأول، الذي هو نفسه كان قد قدم للمنطقة من الحجاز، إستعان ببعض العرب لمساعدته في بناء دولة من الصفر تقريباً فكان رشيد طليع (درزي لبناني من قبيلة بني معروف) أول رئيس حكومة للأردن 1921، وتلاه مظهر أرسلان (سوري) والتي ثار ضد حكومته عشائر أردنية بقيادة سلطان العدوان 1923 والرافعين لشعار الأردن للأردنيين، وتلاه على الركابي (سوري) وتوالى الرؤساء من أصول مختلفة على رئاسة الحكومات ليحظى هزاع المجالي بمنصب أول رئيس وزراء من أصل أردني بهذا المنصب في العام 1955 أي بعد (32) عام من تشكيل إمارة شرق الأردن.
وقد كان للنزوح الفلسطيني الثاني للأردن في العام 1967 أثر كبير على التركيبة السكانية لدرجة أصبحت فيها النسبة تقارب على نصف العدد الإجمالي للسكان، وبغض النظر عن الظروف السياسية لهذا التغير الديمغرافي الكبير، فإن الأردن قد إستفاد من زيادة عدد السكان وقد جعل الملك الراحل الحسين بن طلال، رحمه الله، من هذا التغيير مصدر قوة، فرفع شعار “الإنسان أغلى ما نملك” وهو شعار غاية في الذكاء حيث شكل محور النهضة الرائعة التي شهدتها المملكة إبان حكم الحسين الباني فقد إستطاع أن ينفّذ البنية التحتية لدولة سبقت كل دول المنطقة وأستطاع ان يشيد البنية الفوقية من خلال التركيز على تعليم الإنسان وتطوير مهاراته وتشكيل نسيج إجتماعي أردني متماسك في ظل تناقضات بعضها وطني بدافع الحفاظ على الهوية الفلسطينة وبعضها إقليمي عصبوي من منطلق أحقية سكان المنطقة الأصليين.
وعلى الرغم من تحكم السكان من الأصول الشرق أردنية بجميع مفاصل الوظائف الحكومية والجيش تقريباً، إلا أنهم قبلوا بالاستراتيجية التي إختطها الحسين الباني والداعية إلى إنصهار مكونات المجتمع بعضها ببعض فأصبحنا نرى ونعيش في ظل أسرة أردنية من شتى المنابت والأصول، وهذا أمر لم يأتي بسهولة، ولكنه تحول إجتماعي حقيقي أتى في مصلحة الشعبين الفلسطيني والأردني في أغلب الأحيان.
وما ان بتنا نرى نوعاً من الاستقرار الاجتماعي بين المكون الرئيسي للمجتمع الأردني (شرق-غرب) أردني المتقارب من حيث الثقافة والقدرة المالية، حتى بدأ الأردن بإستقبال مكون جديد غريب بعض الشي عن منتج الإندماج الأول، وهو المكون العراقي الذي إختار أن يبتعد عن المجتمع الأردني مدفوعاً ببعض الخصوصية أحياناً والتعجرف أحيانا أخرى لإمتلاكه للمال. وعلى الرغم من إنقضاء حوالي (10) سنوات على تواجد ما يقارب على النصف مليون عراقي بيننا، إلا أننا ما زلنا نلاحظ بأن للعراقيين مجتمعهم الخاص بهم وهذه ظاهرة تستوجب الدراسة، لأن حال الأخوة العراقيين ليس بأفضل من غيرهم لإنعدام بوادر الاستقرار السياسي في العراق في المدى المنظور مما سيجعل من إقامتهم لدينا دائمة، ولكن ما الذي يحد من إنصهارهم في المجتمع الأردني، سؤال يستحق البحث.
وقد ينتظر القاري مني الإنتقال الى قضية اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكلون حوالي 15% من عدد السكان الإجمالي، ولكني سأؤجل هذا حتى أركز على “إستراتيجية” إستقبال اللاجئين الذين هم بالنسبة لي أهلنا وأحبتنا بكل ما للكلمة من معنى، لأني كغيري من الأردنيين قومي عروبي يتمنى ان يعيش في كنف دولة عربية واحدة تسمى الولايات العربية المتحدة، إلا أن موضوع إنعدام الرؤية والتخبط الممارس حالياً تجاه ما تشهده المملكة من موجات نزوح كبيرة يجعلني أدعو لوجوب عقد منتدى عصف ذهني لدراسة الوضع بكل جدية بما يضمن الهندسة الديمغرافية كما فعل الحسين رحمه الله، إما بتبني الإستراتيجية السابقة والقائلة بأن الإنسان أغلى ما نملك، فيتم صياغة الإستراتيجيات القطاعية وفقا لهذه الإستراتيجية، أو أن يتم التعامل من السكان الجدد على أنهم ضيوف معزولين بكنتونات جغرافية معينة مثل الزعتري أو لوبيات إقتصادية من وإلى السوق العراقي. هذه مسائل يتوجب التفكير بها وعدم التسليم بالتعامل معها على أساس الفزعة.
لقد بات من الواضح بأن الأزمة السورية ستطول وبأن الأحباء السوريين سيتحولون من لاجئين إلى مواطنيين بالتدريج وهو ما يخيف المسؤوليين الأردنيين وكان في مقدمتهم جلالة الملك عبد الله الثاني الذي صرّح في أكثر من مناسبة بأنه قلق من تغيّر الديمغرافيا الأردنية، وهو محق بذلك، فلن يكون بالإمكان بعد مدة ليست ببعيدة إرضاء جماعة مسجد الفيحاء بمنصب هنا ونائب هناك، لأن مجلس النواب الأردني العشرين سيتشكل بالمحاصصة التي مهد لها قانون الصوت الواحد الحالي ولكن مساحة المملكة والفجوة التنموية الهائلة بين المركز والأطراف ستحد من وحدة هذا التنوع بما يتناقض مع حلم المملكة الأردنية المتحدة الذي قد يكون المخرج من حالة الترقب والإنتظار التي نعيشها.
إن الإستمرار في سيطرة الشرق أردنيين على الجيش والجهاز الإداري والأمني في ظل إختلال التوازن الديمغرافي الجديد سيحول البلد إلى الحكم بعقلية القلعة الأمنية مقابل مجتمعات مبعثرة (كركية ورماثنة وطفايلة وأربداوية ومخيمات وسورية وعراقية) تحيا بالمحاصصة، فهل هذا هو الأردن الذي نريد.