كم يخسرون
يتعرض الإنسان في حياته لمجموعة من المكاسب والخسائر . أغلب هذه الخسائر قابلة للتعويض . بل بعضها يكون مقدمة لأرباح لا حصر لها ، وكان الخسارة فتحت الأبواب على مصراعيها لنجاحات ومكاسب عظيمة . وبعض أهل المال يذكرون بكل تأكيد أمثال هذه التجارب المريرة في البدايات ، ويتندّرون بأنّ الخسارة التي لا تؤدي إلى إفلاسك تقوّيك .
إلا أن بعض الخسائر غير قابلة للتعويض ، مهما حاولنا وبذلنا . فقطار العمر مثلاً يسير وبسرعة ثابتة ، نراها أحيانا أسرع مما يجب ، وأحيانا أبطأ مما ينبغي ، وذلك حسب رضانا واستمتاعنا وسعادتنا بالوقت ، فلا تكاد تشعر بمرور الوقت ، فالشهر يوما أو بعض يوم . أو بسبب الملل والغضب وظروف سيئة تجعلنا نشعر وكأنّ الزمن قد توقّف . علما أن الزمن في الحالين هو الزمن . وبغض النظر عن هذا الإحساس المؤقت والمبرر للزمن ، إلا أن قطار العمر يبقى سائرا وبسرعته الثابتة حتى يحين موعد وصولة إلى المحطة النهائية لكل فرد . هذا القطار لا يخفف من سرعته ناهيك عن أنه لا يعود للخلف . وهكذا الأيام والأشهر والسنوات التي تنقضي لا يمكن تعويضها . ولو كان ذلك ممكنا لدفع أصحاب الملايين مقابل فترة زمنية قليلة كل ثروتهم .
وكم يخسر من أدرك والديه أو أحدهما ولم يكونا سببا في دخوله الجنّة . فهل ندرك أهميّة الآباء والأمهات ونكون بارين بهما في حياتهما وبعد موتهما . وما أشد خسارة من شهد رمضان ولم تكن أعماله الصالحة فيه من صيام وصلاة وذكر وتلاوة للقرآن وذكر سببا في مغفرة ذنوبه . فرمضان موسم يتسابق فيه المجتهدون وهم يعلمون أنهم قد لا يُدركوه مرة أُخرى .
وفقد الأهل والأحباب والأصحاب خسارة كبيرة لا تعوّض . ولا أقصد بالفقد هنا الانتقال من دارٍ إلى دار ، ولكن الفقد بالانتقال من حالٍ إلى حال . فربَّ كلمة ٍأو تصرّفٍ أو ساعٍ بالشر سعى بين اثنين بالوقيعة أحال الصفاء والحب الذي بينهما إلى عداوةٍ وبغضاء .
ولقد كانت خسارة الشعب المصري كبيرة عندما غادروا ميدان بالتحرير عند تنحي المخلوع ونقل السلطة إلى العسكري . هذه الغلطة تتحملها القوى الحيّة وذات الثّقل والتي تُعاني الآن من النتائج . إذ أن إزاحة عدد محدود من القيادات وبقاء المنظومة السابقة على حالها كان خطاً فادحا . و نفس المنظومة وبمساعدة الخارج عملت على إفشال العملية الديمقراطية وإشغال القيادة الجديدة وإظهارها كعاجزة وضعيفة وفاشلة تمهيدا لإخراجها من المشهد كلياُ ,
وقد كانت فرصة مواتية للرئاسة باستغلال فرصة التخلص من المجلس العسكري بتطهير كافة الأجهزة والمؤسسات مرة واحدة بفعل الصّدمة . فأضاع الرئيس الفرصة وخسر هو والمشروع الإسلامي كثيرا وكانت خسارة ممهورة بالدم والتعب والمعاناة التي يعيشها قطاع واسع من المصريين الآن .
وسنكون الخسارة هذه المرة كارثية إن ترك الناس الميادين وعادوا إلى بيوتهم دون تحقيق كافة أهداف ثورة 25 يناير وعدم الاهتمام بالشكليات كعودة الرئيس أو عودة مجلس الشورى . فالوطن ومصالح الشعب الذي ضحى وبذل أهم من الأشخاص والمؤسسات . إذ ما فائدة عودة الرئيس بلا أو ناقض الصلاحيات أو أن تُغل يده ويحاط بمجموعة من أنصار الانقلاب . وما أهمية عودة مجلس شورى لم يستطع انجاز شيء خلال عام كامل ولم يستطع الاقتراب من قوانين هامة كتعديل السلطة القضائية .
سيخسرون كثيرا لو تعاملوا مع الوفود القادمة من الخارج أو مع من يُبادر للوساطة من الداخل أو المبادرات على أنها تعمل لصالحهم . فكل تلك المحاولات ما هي إلا طوق نجاة ووسيلة أُخرى لإفراغ جهد الناس وتعبهم من مضمونه ليقبلوا بصفقة شكلية لا تلبي شيئا وإنما تصب في مصلحة الانقلاب ومؤيديه ,
سيخسرون كثيرا إن تمكن أصحاب الياقات البيضاء والبدلات الأنيقة من التّفاوض باسمهم وسرقة وتجيير جهدهم هذه الخسارة ستفوق كل الخسارات السابقة وربما يكون الخطأ الأخير .