1»
نرحل إلى سنوات مضت،
إلى حضن تلك القرية
الوادعة في حضن جبل
عوف الشرقي، حيث تتربّع
القلعة على قمته الغربية،
تشمخ منذ مئات
السنين، تشنف آذانها
وأبراجها إلى فلسطين
وذرى الأردن وجبل الشيخ،
تذكرنا بأمجاد الأجداد وانتصاراتهم، وتعيدنا إلى عبق الماضي وذكرياته، إلى عجلون
وقريتنا الوادعة التي أخذت من الجنة عينها العذبة «عين جنة»، وفيها ارتسمت أولى
الحروف، وكانت حروفاً تنبض وهجاً وسكوناً وصدىً وبراءةً وفطرة، تتوهّج بنار الشقاء
والقلة، وتتلفع البرد القارص، ولا تجد في أكثر أيام السنة سوى الريح تهزّ أوتار الحياة،
ترسم على أديم الطبيعة وغابات الصنوبر والسنديان قصة كفاح بطولية فقدت عمودها
في أول السطر وعاشت أيامها محبة، تترنم صفاء الهواء الذهبي الأصيل، في قرية
شاعرية تكلّلها الجبال والقلعة والمنحدرات وأيام الشتاء والطين، تتنسمها رائحة
الدحنون والزعتر والزيتون والسنديان والقيقب، إنها سنوات العمر تمضي وتطوى طيّ
السحاب، ورغم الشقاء والفقر والفاقة واليتم المبكر تبقى نهاراتها العذبة بألوانها الخلابة
ولياليها الحالكة الظلمة أيام صفاء وودّ تعبق بالحياة والنشاط والمرح المغلّف بالحزن
والصبر والرضا والنوم على الطوى، إنها الأيام الوردية تعزف الأسى على قيثارة البرد والبرق
والاضطراب، إنها الأشواق على تلك الهضاب، والزمن العليل الرطب الندي برائحة الزيتون
والسنديان تحت ظل شجر اللزاب والصواب والنسيمات الرطاب، إنها صوت البلابل
والعصافير وحلم المواسم وأخيلة الشهاب… وتبقى السنوات دهوراً من السحر والشقاء
والصفاء، ويالها من روعة الأيام.
«2»
صوت:» انا من هناك ولي ذكريات ولدت كما تولد الناس، لي والدة و بيت كثير النوافذ، لي
إخوه أصدقاء ،هي: الوطن « هناك حيث الطبيعة البسيطة.. والناس الطيبون…وفي يوم
ممطر كانت السماء تلتحف غيومها السوداء.. والجبال تصارعها الرياح الهوجاء، ولفح البرد
لا تدري من اين يأتي ولا اين يمضي.. وهذا المكان هو محراب الحياة؛ شتاؤه نعمة، وصيفه
ضياء وثمره وردٌ وريحان، زيتونه عبقٌ معتق بمرارة السنين.. وتحت شجرة ولدت تلك
الصبية، اول صرخة لها عانقت فيها السماء…وصدى صوتها.. هديل الحمام.. كبرت الصبية
وغدت طلق ريحان تحمل وجعها بنور وجهها النوراني، لا تهادن ولا تقبل أنصاف الحلول،
تنظر في وهج السنين ونعود للحكاية من جديد. وهناك.. في بقعة عالية ترنو السماء
غيومها متلبدة، والطقس بين صحو وانفجار، الجبال شامخة حول المكان والناس يودعون
عامهم وبذارهم في تربة الارض.. في بداية عام جديد يفتح أنواره.. ولد الشاب ميلاده مع
بدء العالم عامه الجديد.. يالها من صدفة ان يأتي العام زاهيا بسيطا لا يعرف غير
البساطة، كان هذا في اخر عام من ذلك العقد الجميل، وتمر الايام عليه في احضان السفر
المكين، وهي لا تعرف راحة؛ كأنها خلية نحل، لا تعرف تعبا ولا يقر لها قرار، هي هي بين
أقرانها ومجاييلها، قوية الشكيمة، حازمة حد الحديد، رقيقة حد الماء، بأسها شديد،
وصبرها ليس له حدود.
هي قصة الامس، حرز ليس له نهاية، بدايته البساطة والفطرة. ولدت الحكاية في قرية
وأدعة بين زرقة السماء الصافية والوديان المتعرجة، حيث الخضرة والينابيع الدافقة،
والبساتين بألوانها وأشجارها الباسقة، الناس البسطاء مع الشقاء والرضا، في جنة وادعة
بين الجبال الشامخة، ولدت انا وسفري المكين، واليوم ها انا وبنات الحرشة وأولاد الغابة
تفرقنا السنون نبتعد ونمضي، كل في طريق، وتمر السنون اعود الى إيقاع العمر، اقف
بين سؤالين الماضي بناسه واهله وطبيعته وحرشه، والحاضر باقاعاته وتجلياته وغموضه،
أحرك الروح شيئا فشيئا اجد نفسي في ارتداد الزمن آصف ذلك اليوم الذي مر في الخاطر
شريطا نابها من عمر الزمن؟ كانت فيه امي تروّد، وانا ما زلت احبو، يا ايها العمر هل تذكر
الحرشة، وطريق المدرسة والرفاق البريا وألعابهم؟ اما انت يا أيقونة العمر يا ام الخير يامن
حملت بكفيك آهات العمر، وتعب السنين، وسحائب الحياة، ووقفت تزرعين الحب في
الأوصال، كيف لي ان اعود اليك وانت الشريان في زمن فقد طعم اليقين، اعود وانا في
شموخ رحلة كنت فيها السيد المطاع والقلب النابض بصوت الأشجار والزيتون واللزاب
والصنوبر و رائحة المطر، افتش فيك عنا فأجدني واحدا من تسعة قناديل مضيئة، كل
واحد بقطنار، تحلمين في اول درجات العمر لكل واحد الف حلم ، ولكل واحد الف طريق،
ولكل واحد صور لا تعد ولا تحصى، يا تعبي من اين ابدأ؟ من حوارها مع ذاتها حين جاء
حاصد العمر ليأخذ نصفها ويتركها بين اقمارها وحيدة تصارع الحياة بقرِها وقلة حيلتها،
امام اسئلة صغار ولقمة عيش تاهت في طريقها، امام طريق طويل لا يعرف القطار سكته
ولا محطاته ولا ركابه؟! يا لطول الطريق! يا لتعب الروح! ويا للطامعين الذين لا يعرفون غير
الشوك والماء الآسن! وتمضي الايام بقدها وطولها ومرها، ويكبر الصغار، وتكبر الاحلام،
وتستمر إيقاعات الحياة بمتغيراتها وسنينها.د. محمد القضاة