محطتان على طريق فشل الاستثمار السياسي
محطتان على طريق فشل الإستثمار السياسي
الدكتور محمد السنجلاوي
دار في الآونة الأخيرة – ومازال يدور – نقاش موسع حول مخاطر استقبال الأردن، للقوات الأمريكية التي حمل حضورها عنوان واحد: حماية البلد من مخاطر السلاح الكيماوي المزعوم، الذي قد يلجأ النظام السوري إلى استخدامه في حال تعرضه للإنهيار، أو خشية وقوع مخازن ذلك السلاح في أيدي إرهابية.
بصرف النظر عن مدى صحة هذا المبرر من عدمه، فقد نجحت “واشنطن”، في حقن أجواء دول الطوق السوري، بضرورة أخذ الحيطة والحذر، من مغبة استخدام الأسلحة الكيماوية، وفداحة تأثيرها على دول الجوار، مما جعل هذه الدول تتهافت – طوعاً أو كرهاً – إلى الحضن الأمريكي، باعتباره يمثل ملاذاً آمناً من العواصف الهوجاء، التي بدأت تهدد صمامات الأمن والأمان في تلك البلدان، على وقع الخطى الدولية المتسارعة نحو الإطاحة بالنظام السوري.
في البداية حاولت الحكومة الأردنية (ذات المستويات غير المتناغمة والمرتبكة) جاهدة إخفاء استقبالها لتلك القوات، وجابهت كل القائلين بذلك بالنفي، غير أنه وبعد فترة وجيزة جداً، أكدت مصادر أمريكية صحة الخبر، وأشارت إلى دخول (200) جندي أمريكي للأراضي الأردنية، ولم تخف حقيقة أن هذا العدد، مرشح للزيادة حسب تسارع وتيرة الأحداث في المنطقة، مما قد يجعل هذا العدد يتزايد إلى حوالي (20,000) ألف جندي.
إن قرار استقبال تلك القوات، تم اتخاذه ضمن دائرة لا تكاد تشمل سوى (عدة أشخاص) احتكروا عملية اتخاذ القرار في ظل تكتم شديد، هذا الأمر فوجئت به – فيما بعد – مستويات رسمية أخرى، كانت تظن نفسها بأنها ضمن المستويات، التي لا يمكن اقصاؤها عند التحضير لأية طبخة سياسية، مهما كان وزنها؛ من أجل المشاركة في عملية تنكيه أو تلوين، ما يُراد طبخه سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
إن الحرج الكبير الذي تعرضت له تلك المستويات الرسمية، دلّ على أن الأردن، كان يحرص بشكل كبير على بقائه داخل دائرة الحياد تجاه الأزمة السورية، وليحافظ على موقفه الثابت والراسخ: لا حل إلا الحل السياسي.
هذا الموقف كان يقابله النظام السوري – في البداية – بكل رحابة صدر، رغم شكوكه الكثيرة حول عدم حياديته، ومع ذلك تعامل معه بعين الرضى؛ نظراً لإدراكه حساسية الموقف الأردني المتعارف عليه سياسياً: بأنه لا يدور إلا في فلك السياسة الأمريكية.
لم تأتِ فلسفة الحياد من فراغ، بل تم انتهاجها بناءً على عدة اعتبارات يعنينا منها:
أولاً: عدم المغامرة باتخاذ موقف عدائي سافر، تجاه النظام السوري، خشية حدوث ردات فعل انتقامية، تهز أمن واستقرار الأردن.
ثانياً: يُدرك الأردن بأنه من غير المقبول شعبياً ولا عربياً ولا إسلامياً، تخندقه مع إسرائيل في خندق واحد؛ لإسقاط نظام (عربي – مسلم) وانتهاك سيادة أراضيه، بخاصة في ظل ما سربه موقع (ديبكا) المقرب من الاستخبارات الإسرائيلية، الذي زعم أن مسؤولين في الجيش الإسرائيلي، عقدوا اجتماعات سرية مع ثوار سوريين في الأردن، لبحث تقديم مساعدات عسكرية للثوار؛ من أجل إسقاط الرئيس بشار الأسد، مقابل عدم مطالبة السوريين بهضبة الجولان.
ثالثاً: إن الرهان على انتصار المعارضة، أو الإصطفاف إلى جانب طرف واحد، قد يكبد الأردن خسائر فادحة (على جميع الأصعدة)، بخاصة أن عملية التنبؤ بنهاية الأزمة وشكل هذه النهاية، عملية صعبة جداً؛ كون هذه الأزمة تم اختطافها (إقليمياً ودولياً)، مما أضفى عليها غموضاً، يصعب على الأردن فك طلاسمه.
بالرغم من كل ما سبق، فإن الأردن لم يُوفق بالمحافظة على موقفه المحايد؛ فموقعه الإستراتيجي ومشكلاته الإقتصادية المتفاقمة، جعلته يتعرض لضغوطات غير مسبوقة من أطراف متعددة، بخاصة (واشنطن ودول الخليج).
الحجم الهائل لهذه الضغوطات، ورّط الأردن بالأزمة السورية، إلى حدّ السماح لقوات أمريكية بدخول أراضيه، الأمر الذي دعاه إلى التبرير قائلاً: بأن دخول هذه القوات لا يخرج عن إطار عمليات التنسيق الأمني، ولا عن إطار إجراء مناورات عسكرية روتينية مشتركة، أو مناورات تكميلية لمناورات سابقة مثل (الأسد المتأهب).
دخول هذه القوات، شكل ضغطاً واضحاً على “رأس النظام السوري” وحلفائه، مما جعله يخرج عن صمته متحدثاً عن وثائق تؤكد له انحراف الأردن عن موقفه المحايد، ودخوله إلى دائرة التورط المفضوح، الأمر الذي جعله يلوّح بالتهديد والوعيد: إن الحريق إذا نشب، سيلتهم دول الجوار.
تورط الأردن – كما أسلفنا سابقاً – لم يُثر حفيظة النظام السوري فحسب، وإنما أثار أيضاً حفيظة حلفائه (إيران وروسيا)، مما جعل الأخيرة توجه رسالة تحذيرية شديدة اللهجة لواشنطن، تحثها فيها على ضرورة عدم الزج بالأردن، في أتون الأزمة السورية، وعدم استخدام أراضيه أو أجوائه، لشن غارات على سورية، سواء من طرفها أو طرف اسرائيل.
أما بالنسبة لإيران فإنها تكاد تكون من أكثر الدول إحاطة بحراجة الموقف الأردني، والذي تعزوه بالدرجة الأولى إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها، هذه الظروف هي التي جعلته بحاجة إلى مخلص خارجي؛ للخروج من تبعاتها الثقيلة التي أضعفته (خارجياً وداخلياً).
ولذا فقد حاولت إيران غير مرة، أن تكون ذلك المخلص (سراً وعلناً)، فقد أفادت قناة الميادين: “بأن وزير الخارجية الإيراني “علي أكبر صالحي”، سلم ملك الأردن رسالة من ثلاثة بنود، منبهاً الملك إلى عدم الوقوع في الفخ الأمريكي وتفادي جرّ الأردن للتورط في تداعيات الأزمة السورية. وأكدت طهران أنها جادة في الدفاع عن سورية ومنع سقوطها، ومشددة على أن إيران مستعدة لتقديم أي مساعدة تؤمن صمود الأردن أمام الضغوط الأمريكية”.
غير أن الأردن ليس باستطاعته الدخول في فلك إيران المنبوذ أمريكياً، وإسرائيلياً، وإلى حد كبير خليجياً. ومع ذلك لم يغلق الأردن بابه بالكامل أمام العروض الإيرانية السخية، وأبقى بابه معها موارباً؛ على أمل استدراج مساعدات فعلية أمريكية وخليجية، تنقذه من المخلص الإيراني.
إذن الكل يهرول باتجاه الأردن، بخاصة الأطراف المعادية للنظام السوري، والكل يمارس عليه ضغوطات مختلفة الأشكال والألوان والأدوات. إن تَرْكَ الأردن وحيداً في صحراء الضغوطات اللاهبة، جعلت رؤيته مشوشة في حقول الإستثمار السياسي، هذا التشوش قاده إلى الفشل في محطات كثيرة في تلك الحقول وهنا سنتناول – على سبيل المثال لا الحصر – محطتين مهمتين دار حولهما مؤخراً جدلٌ كبير:
المحطة الأولى: تمثلت بالموافقة المجانية على دخول القوات الأمريكية للأراضي الأردنية، بالرغم من أن ذلك جاء على حساب انتهاج سياسة (المسافة الواحدة) بين جميع الأطراف، والتي كان ناجحاً في ممارستها إلى حد كبير، منذ اندلاع الأزمة السورية في العام (2011م).
ذلك التشوش في الرؤية جعل صناع القرار، يتجاهلون وجود الحِراكات الشعبية وحضورها الواضح في الفضاء السياسي، بدلاً من استثمارها وتحويلها إلى واجهة، يتمترسون خلفها كأصوات منددة بالوجود الأمريكي، ورافضة لكل أشكال التدخل الأجنبي في الأزمة السورية.
ولأن الأردن يعد حليفاً استراتيجياً لواشنطن، فإنها ستأخذ في عين الاعتبار خطورة الموقف الذي أقدمت عليه، وبالتالي لن تتجرأ على إدخال الدفعة الثانية الأضخم عدداً من هذه القوات؛ خشية تصاعد وتيرة الإحتجاجات التي قد تكلفها – في وقت حساس – سقوط حليف استراتيجي في طاحونة ما اصطلح عليه (الربيع العربي).
فإذا كان من مصلحة “واشنطن” وغيرها، توريط الأردن بطرق مختلفة في الأزمة السورية، سواء كان ذلك عن طريق الإملاء أو الإبتزاز السياسي.. فإنه ليس من مصلحة الأردن التورط فيها، ولذا من حقه أن يستخدم كل ما أوتي من حنكة سياسية حتى لو اقتضى الأمر، إلى عقد صفقات من تحت الطاولة؛ لعرقلة أي مشروع توريطي أو تأزيمي يجلب له الويلات، بخاصة أن الأردن يعلم – كما غيره – أن المطالب الأمريكية التوريطية لا نهاية لها، والتي كان آخرها حث الأردن على ضرورة أن يعقد على أراضيه، في قلب عاصمته “عمان”، اجتماع ما يسمى مجموعة (أصدقاء سورية) من أجل التحضير لمؤتمر دولي حول سورية في جنيف، على طريق الحل السياسي للأزمة السورية.
المحطة الثانية: تمثلت بضرب قرار الأغلبية في البرلمان الأردني – المطالب بطرد السفير الإسرائيلي- بعرض الحائط، ذلك القرار الذي جاء على خلفية اقتحام المتطرفين الصهاينة لساحات الحرم القدسي. في هذه المحطة لم تلجأ الحكومة الأردنية إلى “أضعف الإيمان” المتمثل باستدعاء السفير الأردني للتشاور، بل قامت بتحميل السفير الإسرائيلي (دانييل نيفو) رسالة للحكومة الإسرائيلية وصفتها وسائل الإعلام الرسمية الأردنية بأنها شديدة اللهجة، ليتضح فيما بعد وفق ما تناقلته الصحف الإسرائيلية، بأن السفير عاد إلى الأراضي الإسرائيلية بسبب وفاة والده، وليس بصفته مطروداً. وبالتالي اتضح أن السفير لم يكن يحمل في جيبه لا رسالة شديدة اللهجة، ولا رخوة اللهجة، فالرسالة على ما يبدو لم تكن موجودة أصلاً إلا في أذهان من أشبعونا بشدة لهجتها.
فلو لجأت الحكومة الأردنية على الأقل إلى ما أسميناه (أضعف الإيمان) لأصابت عصفورين في حجر واحد:
أولاً: إنقاذ سمعة البرلمان الحالي، الذي يوصف بأنه برلمان منزوع المخالب ومطعون في شرعيته، ولذا فقد جاء إهمال الإرادة البرلمانية، بمنزلة إطلاق رصاصة الرحمة عليه، ليتحول ذلك على الفور إلى مؤشر من مؤشرات الفشل الديمقراطي المحوكم.
ثانياً: تثبيت هيبة الرعاية الهاشمية للمقدسات، عند أول اختبار تتعرض له بعد توقيع تلك الاتفاقية، هذه الرعاية التي انتزعها جلالة الملك عبدالله الثاني من تلك (اليد) التي كادت أن تنتزعها، مقابل صفقة مالية من خلف الستارة، لولا تدارك جلالته لهذا الأمر، وقيامه بالتوقيع على اتفاقية الرعاية مع الجانب الفلسطيني بسرعة خاطفة، مما يجعلنا نضع هذا الاعتداء بالذات – على الرغم من تكراره – في دائرة (الإعتداء المدبر) من أجل توجيه صفعة لتلك الاتفاقية.
بقي لنا أن نقول: إذا كان الإستثمار السياسي يعد فناً، وكذلك الإستثمار الإقتصادي، فلماذا غُيبَ الفنانون الحقيقيون عن واقع لوحتنا التي (تعربش) عليها القبح والخراب؟!.
m.sanjalawi@yahoo.com
الدكتور محمد السنجلاوي