هَمُّ البناتِ إلى الممات
ثل جميع نساء بلادي القديمات، ترسخ فيها منذ أن انفصلت عن الحبل السري، معنى “السَّتْر” بأنه على شكل إذعان، وعندما شَبَّتْ -عن الطوق الأخضر- امتلأت عفة ًوطهرا ًورقة ًتشبه الزهر المُضَمَّخ ِبالندى.
جاءها الخاطب يطلب يدها! تَمَنَّعَتْ كأيِّ بِكْر ٍعن الإجابة، وطأطات وامتنعت حتى عن إخراج زفيرها ! كي لا يُسجل كإجابة.
كانت متورطة حتى الأذنين في حبِّها للتدين والالتزام، وكانت شديدة الذكاء في اختيار صديقاتها .
أرسل الخاطب كل ما استطاع أن يَتَوَسَّلُ به، ومع ذلك كان لابد من تَفَحُّصِ التزامه بالدين، ولا يهم إن كان فقيرا؛ فهي تحتمل الفقر، لأنها لم تجرِّب الغنى؛ ولكنها لن تحتمل ان تتزوج فاسقاً، لكي لا يفتنها عن دينها .
كان فتىً لم يذكروا عنه اعوجاجاً، فمنذ بداية عهده، التزم الصلاة،ولم يتلوث “بالكورنيش” ولا “ببيوت الدَّرَج ِفي المجمَّعات التجارية”،ولم يجلس على قارعة الثانوية للبنات،ولم يلتقي بإحداهن في “غوغائية عُرْس” لقد كان بريئا ويؤمن بالمخيمات الكشفية .
قبلت به واستفتحت أيامها بِطُهْرِ حُبٍّ حقيقي، وسارت بهما الأيام،جميلة برغم رتابتها، ورُزِقا بابنين وبنت، ولكن بعد أن تسربت إليه النقود،وَنَمَتْ تجارته، افتتح محلاً (للجملة) وصار كل ما أخفاه في نفسه من التفاهة يظهر على قسماته وتصرفاته، وبتسارع عجيب تغير حاله…أصبح كثير الارتداء، للنظارات الشمسية قبل وبعد العصر، وصار يستبدل، في كل بضعة أشهر سيارة جديدة، ويعلق في كرسيها الخلفي (جاكيتا جديدا)لاعتقاده أن هذا “بروتكولاً” يختص به الأغنياء فقط،وأصابته لوثة ٌفي الأناقة!! فإن أعجبه لباسُ شخص ٍما: طاف في الأسواق ذات نهار ٍ،يبحث عما رآه تحديداًليرتديه…………..
تَبَذَّلَ للغاية “واندَلَقَ “في كل موقف كماء (المزراب)، حتى سئمه الكثيرون فأصبح بينهم كثير الألقاب ، فمرة يطلقون عليه (الطفل الكبير) ومرة (غيُّورة) وأحيانا(دلوعة)
أغراه المال باقتناص الشهوات، حتى لاحظت ذلك زوجته في كل تصرفاته،وكل ما يقتنيه، فخافت أن تمتد،عادته في الملل من الأشياء إليها، فنصحته بإشفاق، ونهته عن التبذير………… فثار ثورة البطش، وحلف يمينا بالطلاق: أن لاتعود إلى نصائحها…. فسكتت!
أعجبه خوفها من “الطلاق”فالجبان يقتنص نقاط الضعف فإن ظفر بإحداها،استأسد برغم جبنه وقلة مروءته،فرأى أن التهديد”بالطلاق” سلاحٌ فاعلٌ ينقذه من التردد عند الإقدام على شيء قد يغيظها، ومن ضمن ذلك “العلاقات المشبوهة” بقصد الزواج !!! بل تعدى الأمر إلى كل ما يريده منها ولابد أن يرفق قوله بيمين : ان لم تفعلي كذا فأنت طالق :إن لم تسكتي عن كذا فأنت طالق :إن سألت عن كذا فأنت طالق، حتى خَشِيَتْ أن تطلب الإذن في الشهيق وفي الزفير فيتنبَّه، ويحلف على منعهما بالطلاق.
وذات ليلة ربيعية مشمسة، افتقدت من حاجياتها خماراً لها، وفتشت عنه ملياً حتى يئست وهي تستغرب ضياعه من أغراضها!!
فجاءها خبرٌ عبر هاتف ٍمعروف :زوجك على طرف الطريق السريع وبرفقته امرأة ترتدي (خمارا!) ظنناه برفقتك فنزلنا للسلام فارتبك وتلعثم! فلما توجهنا إلى صاحبة الخمار لم تكن أنت ….فاحرصي
سألته: من هذه التي كانت معك فأردف فورا :إن كررت السؤال! فأنت طالق !
لم تكرر السؤال وكررت سكوتها المعتاد.
فعاد بعد أيام يقول لها، الحمد لله لم أتورط! -: في ماذا ؟!
-: في الزواج من تلك الفتاة فقد اكتشفت أنها فاسقة!!
ومرة أخرى كررت سكوتها،فالسؤال ممنوع لأن “الطلاق” في البندقية ينتظر الدوس على الزناد، فكتمت صوتها وأخفت حشرجات الذل في صدرها،خلف انكسار معتاد، وغلبتها الدموع واختنقت بها حتى أغمي عليها ،وعندما نقلوها إلى المشفى ظهر التشخيص فورا: (حالة انهيار عصبي)؛ هناك سأل أهلها :عن سبب الانهيار المفاجئ! فصمتت وصمتت ،حتى اشتكى الصمت منها،فضايقه السؤال، وحيث انه ضمن خضوعها وانكسارها، ثار من مكانه “كجرذ” تفاجأ بحذاء ينطلق إليه ، وصاح بعنفوان الطفل الصغير المحروم من شيء يريده فورا، بمرافقة حركات عشوائية من يديه ورجليه: أريد أن أتزوج!أريد إن أتزوج! ولا دخل لأحد في ذلك أنا حر! أنا حر! …وكانت حرارة اعتراضه تزداد،وأهلها يرمقونه باحتقار، بينما كان يشتد في ثورته كصغير مدلل حرموه من لعبة اشتهاها .
تركه أهلها على حاله وحوقلوا ومضوا، وفي اليوم التالي،أخذوا يتوغلون في الصبر،ويتقمصون التعقل، ويتعللون بالحكمة المُرَّةِ القائلة: (هَم ُّالبنات ِإلى الممات) فقرروا الرّد على سذاجته،بتصنع السذاجة فقاموا بدعوته إلى وليمة يقيمونها على شرفه العجيب، فأكرموه كأن لم يصنع شيئا، وشيَّعوه عند مغادرته بابتسام مصطنع،يخفي أثر الحنق على الأشداق المجففة، وتبجيل لم يكن يحظى به أمثاله لولا أن (هَمَّ البنات إلى الممات)، فأعجبه ذلك وظنه ضعفا،لأنه تربى على أن العفو، ليس من المكارم،.
وبعد شهرين ظن أن ما حققه من الإساءة ، نوع من الإنجاز بعدما أقنعه صديق له “ماكر” أنه قد اجتاز المرحلة الأولى، فخطب أخرى سراً فَرُفِضْ، وخطب أخرى فَرُفِضْ، فأخبره صديق “على شاكلته” أن في الشام مندوحة للمعدِّدين، فأصبح فيها بأقل من طرفة عين، وهناك عرضت عليه “خطابة شيعية” تدير “بيتا للمتعة” صفاً من (المتمتعات) فتاهت عيناه ووقع أسيرا للعرفي، إذ لم يقبل بالمتعة،ولا يهم ما تقبله العروس،فهي تقبل أي شيء(عرفي،مسيار، متعة،تمتع بلا أي صفة)المهم هو “الثمن”ولكل نوع ثمن يوازيه.
عاد من هناك بخسارة الآلاف،لقاء بضع “ليال ٍصفراء” وفداحة نفس رخيصة ملقاة على عتبات الشهوات، وَتَلَطُّخٌ بامرأة ٍتتزوج، كل أنواع الزواج، على يدي خاطبة “متعددة الخيارات”خصوصا تلك الخيارات المتطرفة المتاحة.
عاد بالخيبة والفضيحة، وبدلا من الأعتذار والتوبة وتصحيح المسار،عاد كالطفل الجهول، يبكي ويثور، ويهدد بالطلاق؛ إن سألته لماذا؛ ويصيح بذات الوقاحة والعنفوان ” أنا حر” ؛ ومرة ًأخرى في وجه أصهاره، الذين عادوا للحكمة المُذلَّة (هم ُّالبنات الى الممات) فصنعوا له وليمة أخرى.
في حين ما زال الانهيار العصبي القديم، يخلف أرتالاً من الرُّكام العصبي والخوف والألم.
هنا قابله صديقه الماكر مرة أخرى، وطمأنه إلى العودة للمحاولة، مادام الأمر سينتهي “بإذعان الزوجة، ووليمة الأصهار”.
ونصحه بأن يعلن عن تعيين سكرتيرة في محله،وعندها تتوافد الراغبات فيتخيَّر منهن من تعجبه، فلعلها تألفه ويغريها فتقبل به زوجاً.
وجاءته الراغبات بالوظيفة، ولكن كان الأمر مثيرا للريبة،فماذا ستفعل سكرتيرة في محل “للجملة”خصوصا وأنه عند كل مقابلة تدور عيناه ببلاهة وصفاقة، ويطوف بهما طولا وعرضا،وجيئة وذهابا، على أجسادهن يتفحص هيئآتهن، بالترافق مع ضحكات ساذجة بلهاء يطلقها تصنعا فتزيده خفة، كما أنه لم يسأل أيا منهن عن مؤهلاتها اللازمة لعمل السكرتيرة،فهو أصلا لا يعرف من مؤهلات المهنة شيئا إلا مسمى السكرتيرة.
ولكن لا يعدم أي “وضع شاذ” من يقبله!وقبلت إحداهن الوظيفة،وبلا أي مؤهلات،فليس مطلوبا منها أن تمارس أي وظيفة، ولم يعد يغادر (دكانه) لأي وظيفة،وبعد أخذ ٍوردٍ، لم يتردد وليها الذي رضي أن يلقيها في مكان قذر، بتزويجها له.
وعاد إلى بيته فرحاً،فكانت فرحته، وبريق عينيه المليئتين بالصفاقة تنبئآن عن باطنه، فسألته زوجته : أراك فرحا عسى الخطب خيراً !!!
-:نعم خيراً…. لقد تزوجت …. ودارت الدنيا بها دورة أخرى من البؤس، وتحشرجت بغمغمات مفهومة: لعله خير.
وبدلا من التخفيف عليها قال بنذالة: اسمعي لا أريد أي إزعاج “أنا حر” ولا أريد من أهلك أي تدخل كان….
: لا عليك لن يتدخلوا فاطمئن
: آه كأني ارقب في قولك تهديدا خفياً “اسمعي” أقسم “بالطلاق” أنك لن ترينهم ولن تذهبي إليهم، كما وأمنعك عن استقبالهم في بيتي، وأقسم أيضا أن لا تكلمي أحدهم على هاتفك، وَتَنَبَّهي أنا جاد! واحذري أنا اعني “الطلاق”أتعرفين ما الطلاق؟؟؟؟؟؟….ومنذ سنوات لم تَزُرْ أهلها ولم تسمح لهم بزيارتها………………….وأنا أقول كم هي غبية من لم تعرف لذة الطلاق من سفيه كهذا.