ثالوث الإقتصاد والعشائر والأمن
ثالوث الإقتصاد والعشائر والأمن
راتب عبابنه
على مدار عقود من الزمن ارتبط اسم الأردن بالأمن واستتبابه حتى أصبح اسم الأردن يعني الإستقرار والأمن والأمان. وهذا الإستقرار فرض نفسه على ساحة السلم العالمي ليجعل من قواتنا المسلحة ورجال الأمن ورجال الدرك في مقدمة المطلوبين عالميا للإسهام في الحفاظ على السلام أو فرضه أحيانا. وقد ضربت مفاخرة المثل الرائع باحترافيتها ومهنيتها عند التعامل مع حالات العنف والشغب التي تزهق بها الكثير من الأرواح بالكثير من الدول وحتى الديموقراطية منها. وزيادة الطلب على العنصر الأردني جاءت بعد أن أدت هذه القوات رسالتها بالداخل الأردني وأثبتت أنها مؤهلة تأهيلا رفيعا للقيام بدورها كقوات أمنية تحرص على أمن الأردن وتحافظ على استقراره.
لكن الملاحظ في الآونه الأخيرة أن مظاهر العنف وأشكال الإخلال بالأمن آخذة بالإزدياد المقلق والذي بات مشكلة تستدعي الحل. فهناك العنف الجامعي المتكرر، والإعتداء على مراكز أمنية، وتخريب بعض الممتلكات العامة، وقطع الطرق، والتدقيق على الهويات من قبل مسلحين وذلك أشبه بالإنفصال والتمرد, وغير ذلك من الأعمال التي لم نعتد عليها في الأردن. لذا صار لزاما على الأجهزة المعنية أن تغوص بالبحث عن الأسباب الحقيقية التي خلقت هذه النتائج.
الأمن لا ينفصل عن الإقتصاد، فالإقتصاد المريح والإستقرار المعيشي وتحقيق النمو الإقتصادي الذي يرفع من سوية الإستقرار المجتمعي وبالتالي يحقق استتباب الأمن، كلها روافد للعزوف عن العنف والإقبال على أسباب تعزيز الرخاء التي بدورها تلغي شيئا فشيئا الشعور بالظلم وهضم الحقوق وسلبها من قبل أناس ذوي نفوذ. عندما يلجأ شخص ما أو جماعة ما للعنف فهي نزعة باتجاه تحصيل حق مهضوم أو دحض اعتداء من جهة ما، وهذا من طبيعة البشر أن تدافع عن نفسها للحماية وتثبيت الحقوق أو استردادها بحال تعرضها للإنتقاص أو المصادرة. ولا نمو ولا تقدم ولا استثمار بوجود عبث أمني أو أمن متراخي أو أمن مزاجي أو أمن تتحكم به المحسوبية والجهوية.
فلو تفحصنا العشرة سنين الأخيرة للاحظنا دون عناء ارتفاع وتيرة المنغصات الأمنية وتفرعاتها إذ كلها مرتبطة ارتباطا عضويا ولصيقا بالأحول الاقتصادية التي تبدو مستعصية على الحل أو هكذا يراد لها أن تكون. التفسير الطاغي على ألسن الكثيرين يصور العشائر ظلما وتقصدا على أنها السبب المحرك لهذا العنف. ألم تكن العشائر موجودة قبل عشر سنوات ومنذ قيام الدولة؟؟ ألم يكن عدد المتعلمين أقل من العدد الحالي؟؟ ألم يكن طابع البساطة هو السائد؟؟ فتلك أسباب تدفع باتجاه الشعور بعدم المسؤولية, ومع ذلك كانت المشاجرات معدومة. فإذن هناك محرك قوي تغلب على الوعي الشبابي ودفع به لميول أخرجته عن صمته الذي كان يأمل منه أن تأتي الفرصة والوقت المناسبين ليصحو له أولي الأمر. أليست العشائر هي التي قرعت طبول الكشف عن الفساد والفاسدين؟؟ هل العشائر هي ذات الحظوة والمقربة من النظام أم هم الدخلاء الذين حلوا علينا نتيجة العلاقات الشخصية والمحسوبية والنفعية حاملين أجنداتهم التي نراها تنهش بالوطن وتقضم ثوابته وتهمش أبنائه؟؟
العشائر, بدورها الفاعل وأعرافها وقوانينها غير الموثقة, عملت دوما وما زالت تعمل على استتباب الأمن وعلى حل الكثير من الإشكالات الإجتماعية التي لا تستطيع الدولة أن تتوصل لحل بشأنها. فهي رديف للأمن ومن أسباب الإستقرار لأنها منظومة اجتماعية أخلاقية فطرية, كلمة الشرف وما ينطق به الرجال يعمل عمل القانون المحمي بالقوة التنفيذية. وهي تعمل بوحي إصلاحي واعي لا مصلحة له سوى التعايش السلمي القائم على العدل والإنصاف وحقن الدماء وإصلاح ذات البين. وهذا يقودنا إلى حقيقة أن العدل مطلب شرعي وأساسي وفطري إن فقد فمعناه تفشي الظلم والإستقواء مما يدفع بالشاعرين بالظلم للنهوض والعمل على إحقاق العدل والمساواة وردع الظالم وانتزاع الحقوق وإعادتها لأصحابها. هذا منطق الأشياء الذي يعلمه الجاهل والمتعلم وهو من افرازات الديمقراطية التي يحاول مسؤولونا اقناعنا بوجودها وهي حقيقة ما زالت طفلا يحبو وشعارا أكثر منه تطبيقا.
الإقتصاد بالمفهوم الواسع هو المحرك للحروب ولتحسين العلاقات بين الدول مثلما هو المحرك لتراجع العلاقات بينها أيضا. ونراه يدفع للصراعات بين الدول التي توصل للإحتلال والوصاية. وبمفهومه القطري، الإقتصاد هو المحرك والخالق لطبيعة العلاقات بين الأفراد بمجتمع ما من جهة وبينهم وبين الدولة المشرفة والقابضة على الإقتصاد من جهة أخرى. وبمفهومه الأضيق، الإقتصاد هو ما نأكل وقدرتنا على توفير ما نأكل، ما نعيش وقدرتنا على توفير مقومات العيش المريح، ما نشتري وقدرتنا على أن نشتري ما نحتاج، ما نبني وقدرتنا على أن نبني.
فإنْ أكْلنا صار صعب المنال، وعيشنا تكدر، وما نود شراءه صار شبه مستحيل، وما نود بناءه وهو المأوى صار من ضرب الخيال، فما نحن بربكم صانعون؟؟ وهذا بالتزامن مع تطاول ماسحي السيارات الأمريكية على مقدراتنا وأمننا وعشائرنا. ومع وجود هذا العجز المدبر والإنشغال بالتوصيف والتشخيص دون ملاحظة البحث الجاد عن حلول استراتيجية, يصبح السكوت ضرب من ضروب الإستعباد والإذلال والسحق. فهل يراد لنا أن نكون مسعبدين وأذلاء ومسحوقين؟؟ إن كان الأمر كذلك, فهذا يعني أن مؤسسة الحكم وأدوات التنفيذ ما زالت تسترشد وتهتدي وتعمل بروح وبنهج الراعي مع الغنم يحركها ويوجهها برفع عصاه فتستجيب ومن يتخلف منها أو يبتعد عن القطيع يُضرب للإمتثال للأمر.
لذا ندعو هؤلاء أن ينفلتوا من التقوقع داخل معبد الإستهتار ويحرروا انفسهم من إرث السادة والعبيد. كما ندعوهم لاستخدام الأدوات والوسائل والمناهج التي تتفق وتنسجم مع الواقع. وننصحهم بالإتعاظ من الدول الربيعية وما آلت إليه ظروفهم وأن لا يبقوا يسوسون الأمور من برج عاجي. الأردنيون بتركيبتهم ونشأتهم ضمن منظومة العشيرة المنضبطة وذات المرجعية القائمة على الإحترام والإلتزام, ليس من السهل عليهم الإنتفاض والتصلب إلا بحال رأوا حقوقهم تصادر وهيبتهم تنتقص ودورهم يهمش ووطنهم ينهشه الغرباء والطامعون. وذودنا عن مفهوم العشيرة يندرج تحت الإبتعاد عن العشيرة بمفهومها القبلي المتحجر الذي يلغي دور العقل ويذهب بالفرد لدرجة مكننته من قبل مفهوم القبلية الضيقة. ونلاحظ وجود موجة يركبها المغرضون بتناول مفهوم العشيرة وطرحه على الملأ بالفهم الضيق والمنغلق على نفسه وتصوير العشائر الأردنية وكأنها ما زالت تعيش بعصر الشاعر الجاهلي دريد بن الصّمّة المتعصب لقبيلته ظالمة أو مظلومة عندما عبر عن هذا الفهم السائد بزمانه قائلا:
وما أنا إلا من غزية إنْ غزتْ غزوتُ وإن ترشد غزية أرشدِ
العشيرة الأردنية لا تؤمن بهذا المفهوم بل تحاربه وتمقته وتعمل برؤيا عصرية حديثة قامت على أساسها دولة حديثة وهي تبني ولا تهدم وتحمي الوطن ولا تعمل على التفريط به وتعمل على ثرائه وليس على إفقاره وهي العضد المتين للنظام وليست دخيلة تتشدق بالإنتماء والولاء. فالذين يتطرقون ببحثهم وحديثهم عن العشيرة عليهم أن ينصفوها بإبراز حقيقتها وأن لا يركبوا موجة الإستهداف والتهميش وإلباسها ثوبا جاهليا. وموجة الإستهداف هذه هي أحد أدوات التفتيت المجتمعي الذي عنده يصبح من السهل جدا فرض ما يرمي إليه المغرضون.
هل نحن أمام خلق ملهاة تلهينا وتصرف أنظارنا عن أمر يحاك؟؟ هل بعد العبث بمفهوم العشائرية الفاعلة وجعلها مشجبا جاهزا ليعلق عليها الكثير من التراجع بشتى المجالات وخصوصا مجال الأمن ،هل جاء دور الأمن ليتم العبث به؟؟ وزعزة الأمن ببلد آمن ومستقر لهو أمر خطير ينبئ بخطورة ما هو قادم. وإذا تسلسلنا زمنيا نجد أن هناك عبث وتلاعب ممنهجين بثالوث الركائز إن اهتزت واحدة اهتزت بسببها الركيزتان الأخريان.
البداية كانت مع ركيزة الإقتصاد الذي تولاه أناس لا يخافون الله ودخلاء (الدخيل هو كل من يعمل على الإضرار بالوطن) على الأردن جيروه لصالحهم وصالح محاسيبهم. فصار حديثنا عن العجز المتزايد والمديونية المتصاعدة وإرتفاع الأسعار الصاروخي والضرائب المهلكة بدل الحديث عن النمو الاقتصادي والعجز المتناقص والديون المتقلصة والأسعار التي تتناسب مع معدل الدخل. إنعكس هذا الضغط على حياة الناس, الركيزة الثانية, وأنماط عيشهم كنتيجة حتمية لاستقواء أشخاص يعملون من خلف حجاب لا قانون يطالهم ومن خلال أذرعتهم وأدواتهم التنفيذية التي التقت مصالحها بل هم من نفس طينة وخلفية أولئك الظلاميون المحجوبون. من الطبيعي أن يتحرك الناس لحماية أنفسهم وتحصيل حقوقهم، والناس أو الشعوب عندما تتحرك لتحقيق مطلب أو استرداد حق لا يستطيع أن يردعها رادع. وكون العشائر هي القوام الأساسي للمجتمع الأردني فلا بد من أن تكتوي بنار الضغوط والسلب والنهب والهدر والبيع والسمسره التي يمارسها الدخلاء، فمارست حقها بالطريقة السلمية البعيدة عن العنف والتخريب. والسلمية نابعة من الوعي والخوف على الوطن والشعور بالمسؤولية وهي قيم تربى عليها الأردنيون بأحضان منظومة العشائر.
الطريقة السلمية لم تحقق المطلوب من وجهة نظر الدخلاء وما زالت الأمور تحت السيطرة والإستقرار بنسبة عالية والأمن ما زال السمة الغالبة على المجتمع الأردني. فتم اللعب بالإقتصاد والإنحدار به إلى الحضيض، وتم تسليط الأضواء على العشائر مما يعني تسليط الأضواء على ركائز الدولة والمجتمع. يبقى لدينا الركيزه الثالثة وهي الأمن، والعبث به يتمم آخر مراحل المخطط الخبيث الذي ينفذه الدخلاء ليختموا اللعبة ويحققوا أعلى رقم من الأهداف. المشاجرات في الجامعات وإن بدت صغيرة فهي كبيرة بدلالاتها وإنعكاساتها. لقد صار من الجدير بالجهات المعنية أن تعمل على البحث والدراسة والتحليل لهذه المشاجرات للوقوف عند أسبابها ومعالجتها واجتثاثها.
فالدولة اليوم مدعوة لتشكيل لجنة أو هيئة من ذوي الإختصاص والخبرة العملية والعلمية وقبل ذلك تحري الغيرة على الوطن والصدق بنية الوصول لحلول جذرية تعالج هذه المشكلات وغيرها ذات العلاقة. فنقترح تشكيل لجنة من علماء اجتماع ، واقتصاد، ونفس، وخبراء بالعشائر، وعسكريين، وأمنيين، وسياسيين لدراسة النزعات الإنفلاتية والتي برأينا متعلقة بالظروف الإقتصادية والمغذاة من جهات دخيلة تحرص على خلخلة المجتمع وتهييجه وخلق الفوضى التي يسهل خلالها تمرير الخطط وتحقيق الأهداف القاتلة.
ونطرح على ذوي الإختصاص والمعنيين بالدولة والذين يهمهم أمن الجامعات وأمن الأردن والذين يحرصون على أن تكون جامعاتنا خالية من المشاجرات وإجهاضها بمهدها نقترح ما يلي:
1 – توفير قوة أمنية رادعة ذات جاهزية عالية مدربة ومؤهلة على كيفية التعاطي مع المشاجرات تتواجد بجوار الحرم الجامعي وليس داخله للتدخل السريع إذا استدعى الأمر وفض المشاجرة والسيطرة على المشتبكين وتأتمر بإمرة الرئيس.
2 – وضع كاميرات رصد وتسجيل خصوصا بالساحات والمسطحات والمطاعم وأماكن التجمع من خلالها يمكن تسهيل الإستدلال على المسبب للإشكال والإمساك بالخيوط الأولى التي تساعد على التوصل لمسبب المشكلة ومجرياتها.
3 – توفير بوابات إلكترونية خاصة لا يسمح بالدخول للحرم الجامعي إلا من خلالها وتسمح بالمرور الجماعي المنظم والسلس مع سهولة السيطرة وتحديد المخالف بحال حمله للسلاح والممنوعات من أي نوع.
4 – بحال عدم استحقاق عقوبة السجن, يطرد المسبب للمشاجرة والمشاركين بها ويعمم على باقي الجامعات بضرورة الإلتزام بعدم قبولهم لمدة تحددها الجهات المعنية حسب حجم المشكلة.
5 ــ عقد دورات تثقيفية توعوية وإعطاء محاضرات من شأنها تعزيز الحس الأمني وإبراز مخاطر الإنزلاق نحو المشاجرات والعنتريات المستندة على النفوذ والواسطة والإستقواء بالعشيرة.
6 ــ طرح مساق إجباري لطلاب السنة الأولى يعالج كافة المخالفات الأمنية وطرق تجنبها ومعالجتها بحال وقوعها والنتائج المترتبة عليها لخلق وعي أمني لدى الطلبة.
هذا ما ارتأينا به حلا آملين الإسهام بطي صفحة هذه المشكلة المتفاقمة والمقلقة أو البقاء عليها بحدودها الدنيا المقبولة والعادية.
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com