“الرميمين” في السجن.
اجتمعت لجنتان حكوميتان، قبل سنوات. الأولى فشلت في بناء منتجعٍ استثماريّ، يجذبُ السيّاحَ والمالَ والأعمال، ويساعدُ على تنمية الريف. الثانية نجحت بسهولة وسرعة في إقامةِ سجنٍ على تلةٍ مرتفعةٍ، تهدرُ تحتها الشلالاتُ والينابيعُ والوديانُ، وتنبسطُ فيها سهولُ الكرمةِ والتين، وتتسلقُ منحدراتها أشجارُ الرمّان والزيتون، في قريةٍ زراعيةٍ، سكنتها أقوامٌ آرامية، عِنْدَ وافرٍ من المياه، والنقوش، والآثار، وكتابة الحضارة. وفيها كنيستان، تعودان إلى عامي 1875 و 1905.
قَدْ يبدو ذَلِكَ افتراضاً، أو قصةً خياليةً عن شعوبٍ غابرةٍ، قررتْ أنْ تسجنَ عيونَ الماء بينَ الصخور، وسارعت إلى حبسِ الخضرةِ وراءَ القضبانِ، لتغري الصحراءَ بالهجرةِ والإقامة، وافتراسِ الأعشابِ. ربما يبدو أيضاً عن أباطرةٍ، يبحثونَ للطبقات العليا من رعاياهم عن سجونٍ فاخرة، حينما يغضبون عليهم، وقد سرقوا حقولَ جَلْعَدَ وقمحها.
ذلك باتَ قصةً واقعيّةً جداً، في قرية الرميمين السلطيّة الأردنية، على تِلالٍ، تبعدُ مسافةَ نصفِ ساعةٍ عن عمَّان. قريباً من أمّ الدنانير، وَأُم نجاصة، وسائرِ الأمهاتِ المنذوراتِ للعقوق والنكران. فلم تجد الحكومة على امتداد الصحارى جنوباً وشرقاً مكاناً لائقاً، لتشيِّدَ عليه سجناً باذخاً، سوى مرتفع عند أعشاشِ الطيور، حيثُ تنامُ الأساطيرُ، ويصحو دائماً واديان: الرميمين، والصايغ، وعلى السجين والسجّان أنْ يجدا حلاًّ لأناشيد العصافير، ولنحو ثلاثة آلافٍ من سكانِ القرية، أخذتهم الهجراتُ إلى يباسٍ، وضيقِ حال.
هذا، مما حدثَ، ويحدثُ للريفِ الأردنيِّ. ليسَ من طبيعةٍ قاسية. ليسَ من مطرٍ شحيح. لنقلْ إنه من شحّ الأفكار، أو من ريبةِ الممشى في العتمة، ومن فساد الذين لا يحرسونَ طحينَ “المونة”. غالباً كانوا ينادونَ على الجَراد، ليسرقَ السنابلَ والحصادَ و”الرشوف” من قُدور الفلاّحين. لا بأسَ أنْ تعودَ الباصاتُ من إربد والسلط وعجلون إلى الحصن وزيّ وكفرنجة بالخبز الأبيضِ الأميركيّ. ثمةَ من يملأُ جيوبه من الاستيراد والغوث، وثمةَ من كَفَرَ بالإله “بعل”، واستجدى وظيفةً، عند تزاحم الدوائر الحكومية، حينما وجدَ اللصُّ أنَّ بإمكانه سرقة البيضِ من حاوية تجارية، وتجويع الدجاجِ حول أقنانها في القرى.
الرميمين: قريةٌ من ذلك الريفِ الذي تحطّمَ، وسجنتهُ الحكوماتُ الأردنيةُ، وهي تضعُ خطط التنمية، وتنويع مصادر الإنتاج والدخل. قريةٌ كان معظم سكانها من الأردنيين المسيحيين، ولفرط خصوبتها وجمالها وطقسها الخلاّب، استقرّت فيها عشائر مسلمةٌ من السلط، ومن فلسطين. وتجاورت المساجدُ الحديثةُ مع الكنائس القديمةُ، وكان اشتقاقها من اسم أميرةٍ، عاشتْ عِنْدَ عنبها وأزهارها وربيعها، أو من اشتقاقٍ سريانيٍّ من الرُمَّان، وهي من أبرز المناطقِ الجاذبةِ للسياحةِ الداخلية، وَكَانَ ممكناً أنْ تتنوّعَ فيها الاستثماراتُ السياحية، فتنعكسَ على حياة النَّاسِ، وتُشجّعَ على التوطين. لولا الهجرة، لولا أنَّ الحكومةَ، بكاملِ ولايتها العامة، وجدت أنْ لا طريقَ إلى التنمية المربحة لها، إلا بإنشاء سجنٍ، عوضاً عن مُنتجعٍ، ومرافق ترفيهية. تضعُ جزءاً من بلادنا على خريطة التسويق السياحيّ، الذي بذخت الحكوماتُ على ترويجه خارجياً، دُونَ جدوى.
منذُ أنْ قررت الحكومةُ بناءَ سجن الرميمين، خاضت عشائر القرية، وناشطون بيئيون حملاتٍ مركزة، لمنعِ زراعةِ “ثؤلولٍ” في وجهٍ مكتنزٍ بالصحة والجمال. عشراتُ الرسائل والمناشدات، والصفحاتُ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، لدرء الخطر، وكلها أخفقت في التصدي للعناد الحكوميّ، وهذه المرة، للدفاع عن طبيعةٍ أردنيةٍ، وموقعٍ أثريٍّ، وجماليٍّ، وليس عن حزب مدنيّ، ولا عن معتصمين للمطالبة بفرص عمل، ولا ضدّ رفع أسعار محروقات، وتلكَ من خيبات البلاد ومن شكوكٍ، تسألُ عن الفائدةِ، والمستفيد.
الوقتُ لم يفت لإنقاذ الرميمين، ولبيع مقرّ سجنها إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي، أو للقطاع الخاص، ليكونَ متحفاً، أو فندقاً، خصوصاً أننا أغلقنا سجن الجفر الصحراويّ، الذي كان رمزاً لقمع النضال السياسي في الخمسينات والستينات، وحولناه إلى مدرسة للتدريب المهني، قبل عشر سنوات، ثمّ قررنا في الزمن نفسه بناء سجن بين الغابات والينابيعِ، والحجارة التي طالها أجدادنا من الجبال، ورفعوا بها البيوتَ والكنائس والسناسلَ، لئلا تنجرفَ تربةُ السفوح، ولئلا يجرفنا النسيان.
باسل رفايعة