العبرة لمن اعتبر
كتب. ناديه نوري
تذكرت لقاءً مع الفنان المصري محمود الجندي وهو يتحدث عن حريق منزله نتيجة ماس كهربائي. قال: “تحول أمام عيني ليس منزلي فحسب، بل تاريخي الفني وذكرياتي كلها إلى رماد، ولم يسعفني الوقت لإنقاذ شيء حتى زوجتي. حمانا الله وإياكم من فواجع الأقدار.”
استحضرت ذلك اللقاء وأنا أتابع أخبار حرائق كاليفورنيا الأمريكية ولوس أنجلوس عبر شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي. انقسم المتابعون بين شامت ومحوقل؛ بين من يقول: “هذا عقاب الله”، ومن يقول: “مؤامرة”، وآخرون يرون أن “المؤمن الحق لا يشمت في ابتلاءات الآخرين”، مرددين: “لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك”.
تعددت الآراء، فكل ينظر للأحداث من منظوره الشخصي. أما أنا، فقد استوقفني أمران لا ثالث لهما.
الأمر الأول، رحمة الله الواسعة. مهما بلغت قوة أقدار الله، فإن رحمته أوسع وأكبر. على الرغم من أن النيران التهمت الهكتارات من الأراضي والمنازل والغابات، إلا أن عدد الضحايا كان قليلاً، لم يتجاوز العشرات. في المقابل، عندما يكون الفعل من صنع الإنسان، تكون الكوارث أشد فتكًا، والضحايا بالآلاف وربما الملايين. لو أعدنا النظر في الحروب التي تسبب بها الإنسان عبر التاريخ، لهالنا عدد ضحاياها وبشاعتها.
الأمر الثاني، أن الخسائر ليست مادية فقط. من بين ضحايا حرائق كاليفورنيا ولوس أنجلوس علية المجتمع من فنانين ومسؤولين وأثرياء، مثل السير أنتوني هوبكنز، وجون غودمان، وآنا فاريس، وكاري إلويس، وباريس هيلتون، وبيلي كريستال، وآدم برودي، وجيمس وودز، وغيرهم كثير. رأيناهم على الشاشات يتألمون، وبعضهم انخرط في البكاء. لم تكن خسارتهم مادية فقط، بل فقدوا تاريخهم، ذكرياتهم، صورهم، وجوائزهم، التي جسدت نجاحاتهم. كل ما سعوا إلى تخليده تبخر بين ليلة وضحاها.
ورغم أن الخسائر المادية، كما تذكر الأخبار، تجاوزت المليارات، فإن هؤلاء الأثرياء يستطيعون تعويضها بسهولة، رغم أن شركات التأمين أوقفت التعويض لمتضرري الحرائق قبل أشهر قليلة. يمكنهم شراء منازل جديدة ربما أجمل، ولكن كيف لهم أن يستعيدوا ذكرياتهم وتاريخهم الذي تبخر؟
علينا ألا نفرح بشيء دنيوي؛ فكل ما على الأرض إلى زوال، ولا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح وذكره الطيب. قال تعالى: “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.” كما يجب ألا نتعلق بشيء أو شخص؛ لأننا معرضون لخسارة كل شيء في لحظة، وعندها يكون الألم مضاعفًا. لكن إن تعلقنا بالله سبحانه وتعالى وبكلماته، ستهون أمام أعيننا صعاب الأمور، وأي خسارة.
وجودنا في الحياة الدنيا سنين معدودة، والآخرة هي خير وأبقى. ليس معنى هذا أن نعيش بلا أمل أو هدف، بل على العكس؛ علينا أن نخلص في أعمالنا ونجتهد لأن الله أمرنا بعمارة الأرض، وأن يقف بعضنا جنب بعض في الأزمات، ونخفف عن بعضنا صعوبات الحياة. فلنجعل الحكمة القائلة: “يا بُني، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا” نبراسًا لحياتنا، نقتدي بها ونسير على هداها.