0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

د. العجلوني يكتب .. آخـر العمـر

قد يكون لصعوبات الحياة إيجابيات تفوق السلبيات التي تنتج عنها، فقد تحمل المصاعب بطياتها التحفيز والتحسين، والخبرة والتحمل والصبر، والتدرب على الطرق المثلى للنجاح، وتطوير الشخصية.

العمر يحتاج لعمر آخر لنفهمه، والمشكلة أنه عندما يتم فهم الحياة يكون قد فات الأوان، ولا ينفع الندم ولا العلم بالشيء الذي ليس منه فائدة حينئذٍ.

تتغير نظرة الإنسان للأشياء، كلما تقدم في العمر. وأكثر ما يزيد الإنسان نضوجاً هو مروره بتجارب مختلفة: منها الجميلة ومنها القاسية، ومنها الذي يجعل الإنسان يتمنى الموت، ومن أصعبها المرض، الذي يجعل الإنسان يدرك أنه كائن ضعيف لا حول له ولا قوة، فيعيد حسابات نفسه. ومنها فراق الأحبة، وتظهر الحياة أنها رحلة سوف تنتهي، وما هي إلا خيط دخان. ومنها شعور الإنسان بالغربة وهو بين الناس، فلا يعود يعرف مكانه، ولا إلى أين تكون الخاتمة.

العمر مجرد رقم، والشباب شباب الروح، ولا شك أن هناك دائمآ متسع في هذه الحياة لكل ما يتمناه الإنسان، ويبقى من العمر ما يكفي للمتعة والعيش بكرامة وحرية، والمؤكد أننا نعيش مرة واحدة، فلا بد أن يكون هنالك راحة بقدر يجعلنا نستمر بهذه الحياة.

الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن العمر عندما يمضي يأخذ معه من صحتنا وقدرتنا على التحمل، وأن الروح مهما كانت شابة ستثقلها المشاكل والمصائب واللايذات والضيق والتجارب المرة، والبعض من كبار السن قد تظهر عليهم علامات الضعف أو الخرف أو التدهور المعرفي، وقد يستمر حتى نهاية حياتهم.

كبار السن الذين تزيد أعمارهم عن ٦٠ عاماً فأكثر هم الأكثر اعترافاً بوجهات النظر المتعددة، والتنازل، والاعتراف بحدود معرفتهم، وذلك لأسباب عديدة: منها زيادة الحكمة، حيث يصبح لديهم معرفة أكبر للنجاح في الحياة. ومنها القدرة على حل المشكلات العميفة والتعلم، واستخدام التكنولوجيا الجديدة، مقارنة بما كانوا عليه عندما كانوا أصغر سناً، هذا يرجع إلى الخبرة، حيث أنهم الآن يعرفون أين تكمن الصعوبات، وكيفية التعامل معها، فقد أصبحت لديهم الآن مساحة أكبر في أدمغتهم لتقدير ما حولهم. ومنها أنهم يستطيعون التركيز بشكل أفضل، وتختفي عندهم الكثير من المخاوف، لأن الخبرة في الحياة تجعلهم أكثر ثقة بأنفسهم، وأقل تأثراً بوجهات النظر السائدة في المجتمع. والآن أصبحوا لا يهتمون كثيراً بما يعتقده الناس عنهم، ولا يهمهم ما قد يثير إعجاب الآخرين. والشعور برفاهية أكبر، وترتيب الأولويات، والتخلص من الأعباء والاعتناء بأنفسهم أكثر.

حياة الإنسان مراحل، والشخص الذي يريد السعادة والراحة هو الشخص القادر على التصالح مع نفسه في كل مرحلة، وتقبل كل ما فيها، وتحمل أعبائها والإيمان والرضا بالقدر خيره وشره. ولا شك أن الإنسان في آخر العمر، سيحتاج إلى الدعم والمساعدة من الأسرة والأصدقاء.

عند التقدم في العمر، يدرك الإنسان أنه بقي لديه سنوات أقل مما مضى من العمر، ويبدأ ينظر من زوايا عدة، ويقوم بتقييم الأمور بطريقة إيجابية أكثر، ويجد راحة في الهدوء والتعامل اللطيف مع الناس، ويقتنع أنه لا داعي إلى الركض وراء أشياء صعبة المنال أو تحتاج إلى جهد وتعب أكثر من فائدة تحصيلها، ويركز على العمل المثمر، ويتبنى وجهات النظر الإيجابية والأفضل للمستقبل.

القدرة على التحمل تختلف من عمر لآخر، ومن شخصية لأخرى، وممكن أن تكون مرحلة ما بعد الخمسين هي الأجمل أو الأصعب، ممكن أن تكون مرحلة هدوء وراحة بعيداً عن متطلبات العمل، وعناء التحصيل المادي والاجتماعي، وينظر من خلالها الشخص للحياة برؤية مختلفة وأكثر حكمة ورزانة، وفيها الانتباه إلى الصحة الجسمية والنفسية، والمرونة العاطفية، والتعليم المستمر، والمحبة، وترك ما لا يعنينا، ليكون هنالك سعادة وراحة بال، وقد تكون من أجمل مراحل الحياة، فيها الخبرة والزهد، وتقدِير الأمور على قدرها الحقيقي.

الموت هو سنة الحياة، والفطين من أدرك أن حياته ما هي إلا رحلة مؤقتة واستعد لما بعدها، ويخاف الإنسان من فكرة الموت عندما يتذكر ما فعله من شرور وظلم، أما من قدم الخير فربما يكون مستبشرًا لدنوِّ أجله وانتقاله إلى الحياة الآخرة، وإن تنمية الوازع الديني لدى الإنسان من أكثر ما يطهر النفس ويمدها بالقوة والثبات للمواجهة.

النظرة السائدة من عامة الناس لكبار السن هي الشفقة والرحمة، وأنه قد انتهى دورهم في العيش والآن يقفون على رصيف انتظار الموت، ولم يعد لديهم إنتاجية ولا مستقبل، وهذا ما يشعر به الكثير من كبار السن، وذلك يزيد من الأزمات النفسية والدخول في نوبات من الاكتئاب وزيادة حدة التوتر والقلق، وممكن أن يدخل كبار السن في حالة من السلبية نتيجة للثقافة الاجتماعية والنظرة الجائرة التي تمنع الإنسان أن يعيش هذه المرحلة بسلام، ويقلل من قدراتهم على المشاركة، وتبدأ تتكرر في أنفسهم مقولة “ما ظل من العمر قد ما مضى”.

ظهور الشيب في الشعر والتجاعيد في الوجه تعني عند بعض الناس النهاية، وهذا غير صحيح، لأن هذه الملامح تعطي الإنسان جمالاً أكثر وهيبة، ومزيداً من الوقار، والقناعة والثقة بالنفس بما حققه الإنسان من انجازات. تلك العلامات هي خير شاهد على خوض معارك الحياة بنجاح، والخروج منها بسلام وخسائر لا تُذكر.

هنالك أزمة يمر فيها معظم الناس في منتصف الخمسينيات، يكون فيها شعور بالعزلة والتعب والقلق، ويقل الشعور بالفرح والسعادة، وفيها تقلبات نفسية وعاطفية، وممكن أن يكون فيها فشل وهَدم للبيوت، بسبب تغيرات في المشاعر قد تؤدي إلى شروخ في العلاقات يصعب إصلاحها.

قبل الوصول إلى آخر العمر، يجب اتخاذ قرارات جيدة في وقتها المناسب، والتخطيط لسنوات الشيخوخة القادمة بحيث تكون الحياة سعيدة ومريحة، وذلك يكون بالتغيير إلى الجانب الإيجابي والتأقلم مع متطلبات الحياة، وكلما كانت في وقت مبكر يمكن إيجاد طرق صحية للتعامل مع المصاعب والأزمات، والعمل بوعي واجتناب الأحزان أو العثرات التي قد يتعرض لها كل واحد منا مهما كانت قدراته وذكائه.

مهم أن تكون العلاقات في آخر العمر مستقرة ومنطقية، وهذا يشمل زواجاً ثابتاً، وعلاقات متينة مع العائلة والأصدقاء والزملاء، والإبقاء فقط على الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم، والذين يقفون معك في الأوقات الصعبة مهما كانت الظروف، فوجود شريك لك يقاسمك ملذات الحياة وهمومها ويدعمك هو خير ما يجعلك تشعر بالسعادة والأمان وراحة البال.

السنوات الأخيرة من العمر يكون فيها تغيرات متعددة، مثل التوقف عن العمل، أو تغيير المنزل، أو فقدان الأحبة والأصدقاء، ممكن زيادة أو انخفاض في الدخل المادي، ممكن نزول أو ارتفاع في المستوى الاجتماعي أو الانشغال بالعمل العام، وممكن التفرغ للعلاقات وإصلاح ذات البين، وممكن الالتزام الأخلاقي والديني الكامل.

كبار السن في الغالب يتحولون إلى مفكرين مع التقدم في العمر، ويصبحون أكثر مهارة في حل المشكلات وأكثر استقراراً نفسياً وعاطفياً، ومهما تكون حولهم التغيرات وشدتها، وإن بدت للآخرين صعبة، فهي عندهم مجرد أحداث وأقدار، وممكن قد شهدوا مثلها سابقاً أو حدثت مع غيرهم، فتجدهم يتعاملون معها بهدوء وراحة، ولا تسبب لهم أي اضطرابات، ولا يكون هنالك أي نوع من الحزن أو الملل، هم يعتمدون على دعم أنفسهم بأنفسهم، لأنهم يمتلكون مشاعر مستقرة، وسوف يسيرون في كل نواحي الحياة، ويقومون بأعمالهم اليومية كما يحتاج الأمر، مؤقتاً هذا الوقت سوف يمضي، ومؤمناً بقول الإمام الشافعي “ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً…وعند الله منها المخرج، ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت…وكنت أظنها لا تفرج.

هنالك فتنة في آخر العمر، وهي عقوبة يسلّطها الله على بعض عباده، وهنالك أسباب لفتنة آخر العمر؛ منها الإصرار على ظلم النّاس، والإصرار على الذّنوب والمعاصي والمنكرات، ومنها اقتراف ذنوب الخفاء والخلوات؛
لذلك يكون جزاء الله لهذه النوعية من الناس أن يخذلهم ويخزيهم في آخر أعمارهم؛ فممكن أن يسلبهم النّعم التي لم يحفظوها، أو ينزع منهم بركتها ومتعتها، وممكن أن يسلط الله عليهم الشّيطان يحرّضهم على عصيان الله، فيخسرون الدنيا والآخرة، لأنهم ساروا في طريق الفجّر والسعي إلى الشّهوات، ويظلمون أنفسهم وينظرون إلى المحرّمات، ويخدعون النّاس، والحقيقة أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم، ولا يحفظون حرمات الناس، ولا يستطيعون حفظ ألسنتهم أو أعينهم أو أيديهم أو فروجهم، وتكون أقوالهم غير أفعالهم.

الله سبحانه وتعالى يبدل سيئات العبد حسنات إذا ما تاب، فقد يتوب الإنسان عند مرحلة متقدمة من العمر بعدما قضى سنين عمره دون الالتزام بالعبادات وبغض المحرمات، فيقبل الله توبته، وإن اتجه للخير والعمل الصالح سوف يبدل الله سيئاته حسنات، ولكن هنالك من الناس من يموت في سن مبكرة، ولا يسعده الحظ وقصر عمره بالاستفادة من هذه الخاصية في الدين، ويخسر هذه المنة من الله عز وجل، ولو طال عمره وعاش عمرا” أكثر ، فلربما كان من التائبين، وكسب آخر عمره في الإيمان والتقوي وكسب الدنيا والآخرة.

الحياة عبارة عن سلسلة من التغيرات والدروس، وفيها الحلو والمر، ولا يبقى شيء على حاله. لذلك يجب اقتناص الفرص والاستفادة من كل يوم، ويجب تقدير العلاقات بالأحباء والأقارب والأصدقاء، والحفاظ عليها، وإعطاء الأولوية للعائلة، وتقدير الجهد المبذول منهم، وعدم إهمال رغباتهم وحقوقهم.

في آخر العمر، يصل الأنسان إلى العديد من الحقائق؛ منها أنه سوف يتيقن أن العائلة والأحباء والأقرباء أولوية. وأنه يجب التخلي عن الكثير من الماضي، ولا داعي للتمسك بالذكريات المؤلمة التي تعيق المضي قدمًا في الحياة، وأن يختار الإنسان السلام، ويفسح المجال لعلاقات جديدة.

في آخر العمر يدرك الإنسان أن الكمال أسطورة؛ والسعي وراء الكمال فيه الكثير من الجهد والتعب والتوتر والقلق والمعاناة. وأن السعادة هي من اختيارك، ولا تأتي فقط بالعائلة أو النجاح أو المال، والقدرة على تحقيق السعادة موجودة بداخل الشخص نفسه. وأن رعاية الذات ليست أنانية.

الشجاعة والكرم والشهامة هي قمة الفخر والعزة، وتعطي للإنسان الوجود والقيمة، واكتمال الشخصية والرجولة، ولكن الضعف في بعض الأحيان شيء جيد وليس نقيصة، وتظهر من خلال الضعف نقاط متعددة من القوة والحكمة والاتزان، التي تحول العلاقات إلى الأسهل والأفضل.

في آخر العمر، يعرف الإنسان أن الفشل مجرد درس، يتعلم منه الإنسان المرونة والمثابرة والشجاعة لمحاولة أخرى، ويزيد من فرص النجاح. وفي آخر العمر لا يخاف الإنسان ولا يستحي أن يقول “لا”، لأن قول “لا” تعتمد على الثقة بالنفس وتقدير الذات، وتضع حدودًا للآخرين، وتعطي الأولوية لاحتياجاته الخاصة والشخصية.

وفي آخر العمر، يتعلم الإنسان أن اقتناص الفرص شيء صحيح وجميل، ولا يجوز الاستمرار بالخوف من ارتكاب الأخطاء، ويجب أن يغتنم الإنسان الفرص في وقتها، ويسير في الطريق الصحيح، ويقول الكلمات في حينها ومكانها عندما يتوفر رجالها.

في آخر العمر، سوف تدرك أن الكرم من أجمل ما يقوم به الإنسان، والقرب من الوالدين والأخوات والإخوان والأبناء هو قمة الراحة والمتعة والعيش بعزة وكرامة، وإذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا.
ابتعد عن الأشخاص الي مثل “الفص عند التحيات”، ولكن مهما كان الأمر لا تندم على ما فات، واقنع نفسك أن القادم أفضل.

دائماً يجب أن نتذكر أن الحياة قصيرة وعابرة، ولا يبقى إلا وجه الله، والذكرى الحسنة للإنسان والصدقة الجارية والعمل الصالح ودعوة من ابن أو ابنة صالحة، ذلك يجعل الإنسان لا يكثرث للتوافه، ويترك ما لا يعنيه، ويعيش بشكل متزن ومكتمل، ولا يخاف إلا الله، وهذا ما يدفع الإنسان إلى الاستفادة القصوى من كل يوم بعمل الخير، وإعطاء الحقوق لأصحابها، والبعد عن ظلم الناس وتقدير وخدمة أقرب الناس.

في آخر العمر، يجب التخطيط لآخر الأيام؛ حتى لا يكون الإنسان وحيداً، ولا مضطهداً، أو لا يجد من يقف بجانبه، ويدعمه ويحفظ شيبته، فإذا كانت الحياة مع العائلة أو الأصدقاء فيها قدر منطقي من الراحة، والرضا والسعادة، فالاستمرار يجب أن يكون هو الأساس، وخاصة إذا كان الأمل بالحياة القادمة مضموناً إلى الأحسن، وإلا فإن الأفضل لك أن تغير الطريق، وأن تبحث عن سعادتك، وتستمتع بحياتك مبكرًا دون تردد أو تأجيل، لأن اليوم الذي يمضي لن يعود مرة أخرى، وكذلك يجب الإهتمام بالصحة والحياة الاجتماعية والدينية، والأعمال الصالحة، لأن الإنسان لا يدري متى يموت، لذلك يجب على الإنسان أن يحرص على طاعة الله، وأن يكثر من الاستغفار والحمد، ويتصالح مع نفسه ومع الآخرين.

في اخر العمر هنالك أنشطة تمكنك من التخلص من التوتر من عقلك وجسدك، وتعطيك القدرة على استعادة طاقتك الايجابية، وتجديد شبابك، وتمدك بالقوة للاستمرار والصبر، ونجعلك تهيش يومك بسعادة، وتنظر الى الايام القادمة بامل، وهذة الانشطة تتضمن؛ الراحة الفكرية: بالاستراحة من التفكير المقلق والمزعج والسلبي، والابتعاد عن المهام التي تحفز أو تتطلب الكثير من قوة الدماغ. الراحة الاجتماعية: من خلال الجلوس لتناول طعام الغداء مع صديق أو إجراء مكالمة هاتفية محببة، والنظر من زاوية الطرف الاخر، وتخصيص وقتًا اكبر لتكون مع الأشخاص الذين يجعلونك تشعر بمزيد من الاسترخاء، والذهاب في نزهة، أو او ممارسة البستنة والعمل في الحديقة، وقد تحتاج لقضاء وقت قصير في عزلة بمفردك. الراحة الحسية: بفصل الأجهزة الإلكترونية الخاصة بك، والاستمتاع بالأضواء الخافتة، والبحث عن مكان هادئ لأخذ استراحة حسية، لراحة النفس والعقل. الراحة الروحية؛ بممارسة التأمل، والايمان والتواصل الديني. الراحة العاطفية: التي تمنحك الحرية في التعبير عن مشاعرك، وممارسة التعاطف والتحدث الإيجابي مع النفس، وعدم اعطاء اولوية لارضاء الناس.

اللهم راحة البال، وصحة البدن، وحُب لأخر العُمر، ولمة أهل ما تنقطع، وصُحبة صالحة لا يتخلّون عنّا، والستر والعزة، والرضا والقناهة بما قسمت، والحمد والشُكر على نعمك، وقنا الدين وقهر الرجال.

كتب . د. يوسف العجلوني