صحوة جيل
كتب.نادية نوري
في الماضي، كان السلاطين يربّون أبناءهم تربية صارمة لتأهيلهم لتولي زمام الحكم من بعدهم. كانوا يعلمونهم الفروسية والمبارزة، ويجلبون لهم أساتذة متخصصين في مختلف العلوم واللغات، بل وحتى الموسيقى والرسم والبلاغة والشعر، ليعدوهم إعدادًا شاملًا للحكم. ولم تكن تلك التربية تخلو من القسوة أحيانًا.
قرأت قصة عن أحد السلاطين الذي أمر ابنه الشاب أن يتعلم حرفة يدوية إضافة إلى المهارات الأخرى التي اكتسبها. تعجب الأمير الشاب، فقد كان قد أتقن الفروسية والقتال والسباحة والشعر والبلاغة والعزف، ويجيد لغات متعددة، كما أنه ملم ببروتوكولات القصور. فما حاجته لتعلم حرفة يدويّة وهي من اختصاص عامة الشعب؟ إلا أن السلطان الأب أصرّ على قراره ورفض اعتراضات ابنه ووالدته، بل جلب إلى القصر معلّمًا متخصصًا في صناعة السجاد. وطلب من المعلم أن يعطي الأمير دينارًا ذهبيًا عن كل يوم يُنجز فيه عملًا متقنًا تشجيعًا له.
لجأ الأمير إلى والدته شاكياً، مستنكرًا أن يعمل تحت إشراف أحد من عامة الشعب. هدّأته الأم وقالت: “لا تبالي، استمتع بيومك كالمعتاد، وعند المساء سأعطيك الدينار الذهبي لتقدمه لوالدك”. فرح الأمير واستمر في اللهو بين خيله وصيده كعادته، ثم يعود في المساء ويقدم الدينار الذهبي لوالده، الذي كان يرميه في البحيرة. استمر الحال على هذا النحو لمدة شهر، حتى قرر الشاب أن يذهب للمعلم ويتعلم الحرفة فعليًا لينال رضا والده.
بدأ الأمير بالتعلم، واكتشف متعة حياكة السجاد، وأتقن الحرفة بسهولة. في يوم ما، أعطاه المعلم دينارًا ذهبيًا كمكافأة على عمله المتقن. عندما عاد الأمير إلى والده وقدّم له الدينار، همّ السلطان برميه كعادته، لكن الشاب أمسك يد والده قائلًا: “لا تفعل، أرجوك!” ضحك السلطان وربت على كتف ابنه قائلاً: “إذن هذا الدينار ثمين لأنه جاء نتيجة تعبك وجهدك. هذا درس لك في الحياة: المال الذي يُكتسب بجهد الشخص يصبح عزيزًا عليه، بعكس المال الذي يحصل عليه بسهولة.”
مقارنة مع الواقع
ذكرتني هذه القصة بجارة لي رزقها الله بأربع بنات متقاربات في العمر. كانت شقتها من أهدأ الشقق في العمارة. لم نكن نسمع أصوات لعب أو شجار كما هو معتاد في المنازل التي فيها أطفال. كنت أتعجب: كيف يمكن لأربع بنات أن يعم الهدوء بينهن؟
زرتها يومًا، ووجدت الأم تجلس وحولها بناتها الأربع، كل واحدة منهن منهمكة في حياكة الصوف. الأم كانت تشغل صدر البلوزة، والكبرى تشغل الظهر، والأخريان تعملان على الأكمام، بينما كانت الصغرى تعدّ الشاي. كان الجميع يعمل بتناغم وكأنهم خلية نحل.
لم أجد هاتفًا في أيديهن، ولم يكن التلفاز يجذب اهتمامهن. أعجبتني تلك الروح العائلية، وعجبت أكثر عندما قالت الأم: “نحن لا نرتدي إلا ما صنعته أيدينا. لا توجد متعة أكبر من ارتداء شيء صنعته بنفسك.”
شتان بين هذه الأسرة وبين العديد من الأسر التي أصبح أفرادها منشغلين بهواتفهم النقالة، كلٌ في عالمه الخاص، حتى في وجود الضيوف!
أضرار الهواتف النقالة
أصبح من الطبيعي أن ترى الناس في الطرقات أو وسائل المواصلات منشغلين بهواتفهم، رغم التحذيرات الطبية بشأن أضرارها على النظر والسمع والتركيز. الأسوأ هو أن كثيرًا من الأمهات يتركن أطفالهن الصغار يلهون بالهواتف ليجدن وقتًا لهواتفهن الخاصة.
لا أنكر فوائد الهواتف في تسهيل الحياة والأعمال، لكن الاستخدام المفرط للتسلية وإضاعة الوقت أمر يدعو للقلق. يقول المثل: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، وكلنا سنُسأل عن أوقاتنا فيما قضيناها.
دعوة للتغيير
أتمنى أن نستيقظ من غفلتنا، خصوصًا شبابنا وأطفالنا. لنشجعهم على تنمية مواهبهم، وممارسة الرياضة، واستثمار أوقاتهم فيما ينفعهم. الهواتف النقالة أداة نافعة إذا استُخدمت بحكمة، لكنها ليست بديلًا عن المهارات الحقيقية التي تُبنى بالجهد والعمل.