اللقاء الأخير قبل الكرامة
وصل الملازم خضر شكري , ضابط الملاحظة في الجيش العربي الاردني , بعد سفر طويل من وحدته العسكريّة في الاغوار الشمالية إلى معان , في سيّارة عسكريّة قبل أيّام من معركة الكرامة , ليزور أمّه وعائلته, التي كانت تنتظر رؤيته على أحر من الجمر . أخذ يحضن أمّه ويقبلّ يديها , ويستفسر عن صحتّها واحوال ابيه وأخوته , ومع أن ّالغصّة كانت بادية في كلامه وسؤاله , الاّ أنّه حاول أن يظهر لها ابتسامة لم تكد تظهر من بين شفتيه , فالوضع العام في البلاد سيّء , والمعنويّات عنده وعند الجنود وجميع الناس منهارة , بعد نكسة حزيران , وضياع ما تبقّى من أرض فلسطين , و كان يعرف أنّ الناس تحمّل الجيوش العربية وقياداتها , الخسارة الكبيرة في الحرب . ولكنّ امّه , بفطرتها كانت تعرف أنّ ولدها المؤمن الصابر , جندي باسل ولا بدّ يوما ما , أن يحقق مع رفاق السلاح نصر كبير على العدو الغاصب المحتلّ , تتناقل الاجيال بطولات الجنود فيه وتضحياتهم .
تناهت الاخبار سريعا الى كلّ بيوت الحارة , فالضابط خضر في بيته بين عائلته , وكانوا , بعد أن تسابقوا بدعوته لتناول الطعام في بيوتهم , يتذكّرون ذلك الفتى الذي لم يدخل مسابقة رياضية مدرسيّة الاّ وكان الاول فيها , بارع في رمي الرمح , وفي الجري , و كرة القدم , التي كانت مبارياتها تقام في السهل وراء الهضبة التي يسمونها الشعار , ويعرفون انّه منذ نعومة اظفاره , يحلم بأن يكون عسكريا في الجيش العربي , همّه الوحيد الدفاع عن الارض والعرض , وقد تحقق حلمه بعد أن دخل الكلية الحربية , مرشّحا مع بعض زملاءه من كلّ المدن الاردنية , ليتخرّج منها والنجوم تتلألأ على كتفيه , ثم تزوّج وأقاموا له عرسا غنوّا فيه الجوفيّة مع كثير من الاغاني الوطنية .
في المساء كان عليه أن يذهب الى الديوان , ففيه يجتمع الرجال , يتسامرون في أمور حياتهم اليومية . أفسحوا له مكانا في صدر المجلس , وبدأوا يسألونه عن معنويات الجيش , والاستعدادات التي تجري من أجل عودة ولو جزء من الكرامة التي هدرت , والارض التي سلبها المغتصب , من دون أن يجرحوه بكلمة تحمّل الجيش العربي مسؤولية ما حدث . حاول اقناع الحاضرين , وفي صوته تردد , أنّ النصر لا بد آت , و الجميع يعلم أنّ الوضع العسكري صعب , خصوصا مع تفوّق العدو بالعتاد , ولكن معظم الجنود والضبّاط في الجيش العربي يتمنون الشهادة في سبيل الله , وأن عليهم وعلى جميع أبناء الوطن الدعاء لهم بالثبات والنصر , مع إخوانهم الفدائيين الموجودين على الخطوط الامامية في مواجهة عدو تدعمه كلّ دول العالم . فبعضها تدعمه بالسلاح والعتاد , و بعضها بالصمت الرهيب على اغتصابه للأرض العربية , التي لن يحررها , الاّ ابناءها الذين لن يبخلوا بأرواحهم فداء لها .
صمت الجميع في الديوان الذي غصّ بالحاضرين , ودارت القهوة العربية عليهم دورتها الاخيرة , وودّعوا بعضهم غير مسرورين , لينهضوا باكرا الى اعمالهم , وكان على الملازم خضر الانطلاق مع الفجر الى وحدته العسكرية بالقرب من بلدة الكرامة . بعد أن صلّى الفجر , دعا الله أن يعجّل بالنصر القريب , ورفعت أمّه يديها تدعو له الله أن يحفظه . ركب السيّارة العسكرية التي انطلقت به شمالا , مودّعة ارض البادية الاردنية , ولم يكن يعلم انّه الوداع الاخير لأمه وأبيه وأهله , وللمدينة التي أحبّها , ولكنه وداع خلّد اسمه بين اسماء الشهداء الابرار الذين قدمّوا أرواحهم ليعيدوا لأمّة العرب العزّة والكرامة في المعركة الخالدة , معركة الكرامة , التي سيظل يذكرها الأردنيون والعرب والعالم الى الابد .