نجاة الزباير تتفاعل عبر المسافات والاحاسيس المضرجة بالمكان والزمان لتوقظ الريح من جهاتها العشرة
وكال الناس – كتب .رائف الريماوي – عمان – صدر عن دار “رنة” للنشر والتوزيع والطباعة بمصر الديوان السابع “جدائل الليل” الطبعته الأولى 2023. يقع الديوان في مائة صفحة، ويشمل بين غلافيه على ثمانية عشر قصيدة تسافر بين”ثَرْثَرَة عَلى رصِيفِ اُلْهَوَى”و”رصاص أعْمَى”. ما زلنا ونحن في عمان , نسمع عن شاعرة استثنائية في مراكش , تدعى نجاة الزباير, توقظ الريح والروح والراح منذ سنوات وروحها تستحم بالورد ورحيقه، تنثره في الشوارع والميادين تستنشقه إلى حد الحكمة. الأشياء الجميلة تترك الأثر وهي تشق الوقت وتعبر الزمان والمكان ، سنوات ترسم طريقها في هذه الحياة تضمخها بالود و بالورد، حيث لا يمكن إلا أن تلفح روحك ورودها
وعطرها، كالغيم حين يفرش تلباداته في سموات الشعراء ، والذين لا يستطيعوا أن يمنعوا ذلك الغيم من الهطول . تجربتها الشعرية لا تشابه تجارب الاخرين ، بل تأخذ لونا وخطا وطريقا وعطرا خاصا عبر الاشياء القائمة في المكان والزمان ، تترك أثرا مميزا ، تفرض وتفرش حضورها في الواقع وفي الحياة وفي آفاقها المفتوحة على السموات، تجربة نجاة الزباير الشعرية لا تتكرر ، تجربة يتم ضبطها بضوابط معرفية دقيقة وجمالية انيقة ,تقوم على الذوق ، ورؤى وخبرات تستعين بها حين تنظمها وترتبها بإيقاعات منتظمة، ومتفاوتة الشدة، بحيث تضم في قصائدها كل الوجود، وصولاً إلى الاتحاد التام مع الوجود بأسره . نجاة لا تسمح للشعر البليد التافه ان يندس الى تجربتها الشعرية ,
فقصائدها تكشف عن رغبتها في بناء أسطورة إنسانية خاصة، تعيد تفكيك ملامح الوجود عبر الدهشة ,والوهج والاحتراق وتكريس الجموح والحالة الحلمية , تخوض رحلتها (مثل سندباد) عبر الدهشة والاندهاش والادهاش , تحاول استعادة ملامح الأماكن والناس، تحاول استعادة ما قبل طوفان القبائل، لتعود من حيث لم تبدأ محاولة استعادة المبتدأ والخبر ، سيرة ممتدة بين اصقاع المدن والمشاعر والرغبات والقلق، ذات نظرة ونظريات متعددة، لا تقف عند حدود رؤياها الفردية، تبحث عن أكثر من طريق للوصول الى ما تبحث عنه . تتدفّق بصمت و وداعة
حلمها الراقد بهدوء وبثقة وطمأنينة صورها الشعرية ، بالشكل الذي يضعها أمام نفسها لتواجه الحقيقة وخطورة لمسها. فهي في أدقّ حذرها وهي تقترب من ذاتها، و من ذات الآخر وفهمها مما يجعلها تبحث عن معلومات و أفكار جديدة تلتقطها و تعالجها بأسلوبها القائم على الاستكشاف والتنوّع. تختبر الواقع بمهارتها المعهودة ، وتكسبه خصائصها الذاتية وفهمها الخاص للأحداث والاشياء، تعطي أهمية لبهجة الانفعال , كقيمة جمالية تسهم في جذب اهتمام القارئ ، تجعله يتلقى ويفسّر ويتذوّق تبعا للمنحنى والمنحى الذي تمضي فيه وتحدده هي، عمليات التلقي عندها مبنيّة على تفاعلات تشتقها من خبراتها وخيراتها الشعرية والجمالية. تلتقط بعناية فريدة ملامح ما حولها، وهذا يأخذ حيزا من سرديتها ، تمتلك شكلا واسلوبا خاصا بها، وكأنها تقتفي حركة الروح فيما حولها ، لتخفّف من الضغط الممتد في أعمدتها الخاصة. شغفها يدفعها إلى التوغل، مدركة أن ذلك رافدا للجنون يصبّ في محيطاتها الكثيرة والكبير, روح الشاعرة تنبض فيها وتوقظها على امتداد قصائدها, حيث تتمرّد وتتفوق على نفسها, تهرع لقلمها واوراقها تفرغ فيها معاناتها, وتصور احاسيسها , وتخلق علائق بينها، فكل حركة لقلمها تثير غرابة ، وكل توغل في أصقاعها يثير أسئلة قد تكون الإجابة عليها ابعد مما تتصوره كينونتها , هذا المسار التقط عاطفتها ومنعها من التعثّر. تتحدث بلغة تجعل من حضورها زاهيا ومشرقا , اشعارها محرّضة لمخيلتها، وموهبتها محرّرة لها من كل القيود التي قد تبقي
تجربتها كتجربة شخصية محدودة . قصائدها وقائع جمالية، قائمة على التداخل والحركة في لحظة اندفاع، حين تخلق حالة من التصالح بينها و بين مفرداتها، تصالح قائم على التلامس بين صورها وتصوراتها المختلفة نجاة زباير تعيد للمقياس الداخلي قيمته القصوى ، و وظيفته , وتقومه وفق خصوصية وخاصية اشعارها، وربطه بوعيها القابع بهدوء وثقة في نصوصها ، لتشكل بذلك علاقة مع القارئ ، محرضة له على انجاز تفاعلاته الخاصة في الفهم والتأويل . تحرّر مجالات التعبير لديها، وتخلق نوعا من التظافر فيما بين تساؤلاتها , تمضي في اتجاه قادر
على أن يفجّر مكنوناتها، وقادر على أن يغرقها في بحر الشعر والشعور ، عائمة في أعماقه، متسلحة برصيد هائل من المفردات يجعلها صائدا ماهرا للآلئها. مما جاء في هذا الديوان: كتب لزوجته عن اللهاث في زوابعه أغلق الظرف بدمع ثورته وأرسله مع بقايا فجيعته “ـ تراها قرب الموقد القديم؟ تغزل ثوبا بلون الخريف أم أن شظايا القنابل قَبَّلت فمها الصغير؟ وهل قهوتها الحزينة المندلقة فوق قسمات الغياب ما زالت تبحث عني كي أعود أنا الجندي القديم الذي سافر مئة عام أو يزيد؟” قال في سكون.