في باص مخيّم اليرموك
ينادي سائق الباص ومساعدة بأعلى نبرة في صوتيهما , باب مصلّى مخيم , زاهرة , ليجمعوا اكبر قدر ممكن من الركاب من وسط دمشق الى مخيّم اليرموك , ويعلو مع صوتيهما مغني بصوت جبلي , يقول لحبيبته انّه سيزرع لها بستان من الورود وشجرة صغيرة تضللها , وسيغزل لها من لون الشمس أسواره تضعها في يديها , يركب الجمع الراغب في الوصول كلّا الى مبتغاه , غير ابهين بالصوت المرتفع من جهاز التسجيل ,الذي يكرر الاغنية بلا توّقف , ولا من السائق ومساعده , ويجلس كلّ منهم على اوّل مقعد فارغ , يسرح في خياله بدنياه التي يعيش وبماضيه ومستقبله .
الرجل الاربعيني الذي يجلس بجوار فتاة صغيرة , يحاول ان يمنع قدمه من أن تلامس قدم الفتاة , وهو العائد من عمله في وسط المدينة , ينتظره اولاده بشوق ولا شك وهو الذي لجأ مع أبوه بعد النكسة ليسكن في أطراف الشام , في غرفة من الحديد الذي يصرخ دائما وكانّه يطلب النجدة , ثم تحوّلت الغرفة الى جدران من الاسمنت مضافا اليها حمّام , ويحلم يوما بالعودة الى القرية التي ولد فيها , ولعب مع اقرانه في حواريها , والفتاة التي لا تعرف أنّ جدّها اتى الى هنا بعد أن طرده الصهاينة من بيتة , ليسميه العالم لاجئ , ينتظر من الامم المتحدة مساعدة ومدرسة ليعلّم اطفاله الصغار حبّ فلسطين .
ركب الباص ابو محمّد , جاري العزيز , والذي جاء الى دمشق من ريفها يوما ما , شابا يحدوه الامل في ان يصبح من أعيانها , لكنّه لم يظفر الاّ بشقّة صغيرة يدفع قسطها من نقود التقاعد القليلة , وبتملّكها كان دائما يحمد الله على نعمته , وانّه يعيش بأمان , ويزوره اولاده المتحابين , الذين لم ينسوه بين حين وآخر بعد أن ماتت امهّم , وكنت ازعجه دائما , معاتبا له كيف يترك بلدته , انا الفتى الذي اتى من مدينة صغيرة في جنوب الاردن , حالما بدمشق الواسعة اوّل عاصمة في التاريخ , والتي قرأ عنها قصصا , نسجت في خياله صورة لمدينة الاحلام , الجميلة الرائعة , والتي تسكن بجوار نهر بردى بسلام , والتي عشنا فيها كلّنا أيّاما حلوة .
كان بعض من في الباص يتحدّثون فيما بينهم , عن الامن والسلام الذي يعيشون به , ويتمنون أن تدوم عليهم هذه النعمة , ويبدوا انها دامت لهم ولكنها لم تدم لأبنائهم واحفادهم , الى أن اتى من ينغّص عليهم حياتهم , بأحلام وردّية أصبح تحقيقها لا يكون الاّ بقتل بعضهم بعضا , واللاجئ الذي كان يحلم يوما بالعودة الى بلدته بفلسطين , لم يدر أنّ احفاده ركبوا البحر هربا بأنفسهم الى لجوء آخر ولكن ليس الى فلسطين , وأبو محمّد مات ولم يعلم أنّ أولاده أصبحوا أعداءا , كلّ واحد منهم في فرقة , تعتقد أنها التي على الصواب .
لا يزال صوت المغني يرّن في أذني , ولكني لا أعتقد أنّ أحدا سيتمكن من زرع بستان من الورود لحبيبته , ولن يتبقّى لها شجرة تستظلّ بها , ولن يرى نور الشمس الذي حجبه دخان القنابل.