الداية سلمى
أن تتقدّم فتاة من مجتمع محافظ في ستينيات القرن الماضي كي تتدرب وتعمل في وزارة الصحة كممرضة , وأن تذلل الصعاب التي تواجهها مع الناس من حولها , في تفهّمهم للعمل الكبير الذي يمكن ان تقدّمه للمرضى , المحتاجين للمساعدة من ملائكة الرحمة , وهي التي ترغب في أن تكون واحدة من اللواتي يعملن في عمل قلّ أن تجد فيه , في تلك الايام انثى من كل المملكة تعمل فيه , فكيف يكون من الجنوب , ومن مجتمع يرفض اصلا فكرة العمل للمرأة , فكيف بها تفكّر أن تعمل في مهنة تختلط بها مع الاطباء والممرضين , وتلمس المرضى , وتقيس حرارتهم وضغطهم , وتضع الضمادات على جروحهم .
أصرّت على ذلك , وتفهمت اسرتها قوّة رغبتها في هذا العمل , لكنهم في البداية لم يستسيغوه , ثم خطرت لأحدهم فكرة , كانت المخرج من الحرج مع أنفسهم ومع الناس , وهي ان كان ولا بد , فلتعمل ممرضة في توليد النساء , وهو عمل كانت تقوم به النساء الكبار في السن أصلا من دون ترخيص , قبل أن تشرع الحكومة في تنظيمه , راقت لها الفكرة , وخصوصا انها ايضا ستكون ممرضة تقدّم خدمة للنساء , ثم انها ستساعد في خروج القادمين الجدد الى هذه الحياة , سالمين معافين , وهو عمل لا شكّ عظيم .
وانتظمت بعد تخرّجها من دوراتها التدريبية , ممرضة في المركز الصحي , الذي افتتح فيه قسما للأمومة والطفولة , وكانت هي اوّل من عمل فيه , واصبح الناس يتعوّدون , ولكن ببطء, على وجودها , وهم الذين لا تذهب نساءهم للولادة في المستشفيات , وكان الحل بأن تذهب هي الى البيوت لهذا العمل , وبرغبة من الناس أنفسهم لأنها متعلّمة , وتفهم في عملها , واشتهرت بينهم بالداية سلمى .
ومضت بها السنون , وهي المخلصة لعملها , المتفانية فيه , لا تطلب اجازة ولا حتّى مغادرة , تنظّم لكل النساء أضابيرهن , وتعرف جميع مواعيدهن , ويعتبرنها الأخت التي لا يمكن الاستغناء عنها , تعمل ليل نهار في المركز وفي البيوت , اصبح الناس جميعهم يعرفونها , ويعرفون مدى تفانيها في العمل , ثمّ تقدمت فتيات اخريات للعمل كممرضات , من المحصلاّت على الدرجات العلمية من المعاهد والجامعات , واصبحن يتكاثرن ولم يعد وجود ممرضة في مستشفى أمر غريب , وأحسّت الداية سلمى أنها لم تعد تستطيع ان تقدّم الخدمة التي يقدمّنها , وجاء كتاب التقاعد عن العمل من دون ان تطلبه .
احسّت أن الناس قد نسوها , ولم يعودوا بحاجة الى خدماتها و ولكنها وبعد اسبوع من الجلوس في المنزل ذهبت لمركز عملها السابق كي تجمع أشياءها الخاصة وتنهي اوراق التقاعد , واذا بها وهي في الممر بين المكاتب تسمع امرأة تنادي باسمها وتقول , لا أريد غير الداية سلمى , تركت اوراقها وأشياءها وارتدت مريولا ابيض , وذهبت تبحث عمّن طلبت مساعدتها , لتستقبل قادم جديد الى هذه الدنيا .