مدينة الحجّاج
موسم الحج في مدينتنا معان له طعم آخر , ومنذ ان كنّا صغارا, ننتظر حجّاج بيت الله القادمين من كثير من الدول التي يجب على حجّاجها أن يتوّقفوا في مدينة الحجّاج التي تتوسّط مدينتنا , وبعضهم يأتي من بلاد بعيدة , شرق آسيا وتركيّا وسوريا , ومصر وغيرها , يدخلون المدينة ليرتاحوا من عناء السفر ومن وعثاءه , ليجدوا أناس طيبين يستقبلونهم بالترحاب والمحبة والمودة , لا يسألونهم أجرا على خدمة يقدّمونها لهم , و لا ينتظرون منهم شكر او جزاء , ويقدّمون لهم السكينة والامان , في الحل والترحال .
منذ فجر الاسلام , وبعد أن قدّم فروة بن عمر الجذامي والحارث بن عمير ارواحهم شهداء في سبيل الله , و دخل اهل بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقيا في الاسلام , والحجيج لا ينقطع عن المرور في المدينة والتوّقف فيها , وهي المحطة التي تعتبر بوابة الحجاز , من وصلها فكأنما قربت لحظة وصوله الى الديار المقدسة , وكانت قوافلهم تستريح لأيام وليالي عديدة فيها , ليقّدّم لهم سكّان المدينة ما يشتهون من أطيب الغذاء , والفاكهة من بساتينها الشاميّة والحجازية , والرقراق من ماءها العذب من عين سويلم والضواوي وبير الخماسي , واليوم يقّدم شباب سبيل اهل معان , ما كان يقدمه اجدادهم للحجيج واكثر .
ولن أنسى ما حييت كيف انّي كنت وأقراني , كلّ يوم ننطلق الى مدينة الحجّاج لنتفرّج على الذين قدموا من كلّ أصقاع الدنيا , طالبين من الله الرحمة والمغفرة , وأن يجعل حياتهم ما بعد حجّهم كيوم ولدتهم امهاتهم , نستمع الى لغاتهم المختلفة , والى لباسهم الغريب عن لباسنا , ونحاول قدر المستطاع ان نساعدهم , ونقّدم لهم الخدمة التي يحتاجون , ونحن فرحين مبتهجين بما نقدّم لهم , ونحاول ان ننطق بعض الكلمات التي علّمنا اياها من هم اكبر منّا ويعرفون معنى بعض الكلمات التركيّة , مثل الخبز واللبن والماء وغيرها , نبتسم في وجوههم ويبتسمون هم ايضا , نوّدعهم بمثل ما استقبلناهم به من الترحاب .
في السنة القادمة لن يدخل الحجّاج الى وسط المدينة , فقد بني لهم مدينة واسعة جميلة , تبعد بعض الشيء عن طرف المدينة الشمالي , فيها مرافق كثيرة , ومسجد كبير , وفيها يستطيعون انهاء جميع الامور الادارية التي كانت تجري على الحدود , ولن اتمكّن من ان أرى حافلاتهم تدخل مدينتهم القديمة , التي يبدو انها ستتحوّل الى شيء آخر غير أن تكون مدينة للحجّاج , ولكن ستبقى الذكرى الجميلة لحجّاج بيت الله بلغاتهم ولهجاتهم المختلفة ولباس بعضهم الغريب , محفورة في خيالي .