سلطوية الأستاذ الجامعي
بقلم .د ماجد مغامس
في سبعينيات القرن الماضي, قدم لنا التربوي البرازيلي المعروف باولو فريري – Paulo Freire – كتابه الموسوم: تعليم المضطهدين – Pedagogy of the Oppressed. حيث وصف فيه منهجين مختلفين للتعليم. المنهج الأول هو ما أسماه ( النظام البنكي). وهو نظام منبوذ ذلك لأنه يمثل نظاما سلطوياً محظاً يجعل من المدرس دكتاتوراً يقبل منه ولا يرد إليه, ويقتصر دور الطالب فيه على حفظ ما يقدمه له المعلم بدون إعطائه فرصه لتكوين فكره الشخصي والتعبير عنه.
المنهج الثاني – وهو ما دعا اليه (فريري) – هو منهج ( التعليم الناقد) وهو القائم على بناء شخصية الطالب وفكره من خلال تشجعيه على التفكير والتعبير مترافقاً مع نبذ الصورة التقليديه للمعلم بحيث ينتقل من دور الدكتاتور المستبد إلى دور المعزز والمحفز لبناء فكر وشخصية الطالب. لم تبق أطروحة ( فريري) في إطار التنظير. ففي سعيه نحو الحداثة والتطوير, نبذ نظام التعليم الغربي المنهج التقليدي البنكي وتبنى سياسة التعليم الناقد كجزء من منظومة شموليه لتفعيل الديمقراطية وحرية التفكير والتعبير وتقبل الآخر. إذا نظرنا إلى نظام التعليم الجامعي لدينا, أين نجد أنفسنا في هذا الإطار؟؟ لا نريد أن نشرع في إطلاق التعميمات, فلكل قاعدة شواذ.
ولكن بنظره شموليه لوضع التعليم الجامعي لدينا نجد أننا ما زلنا نقبع خلف قضبان سجن نظام التعليم البنكي الذي هجره العالم منذ اكثر من أربعين عاما!! على من تقع اللائمه هنا؟؟ لا ننكر بأن المناخ العام قد هيأ لهذه البيئة التعليميه الإستبداديه. ولكن يبقى للأستاذ الجامعي دور كبير هنا في تشجيع هذه البيئة أو نبذها وإعتماد ما يناسب عصرنا ويتماشى مع صورة الأستاذ الجامعي كما يجب أن تكون. للأسف, يشيع بين الكثير من أساتذة الجامعات هذا النظام التقليدي البالي الذي وصفه ( فريري) بنظام العصور الوسطى. فمن أهم ما يؤمن به الأستاذ التقليدي كجزء من هويته هو سلطته المطلقه على الطالب.
ولأن النظام التعليمي الجامعي في أية ثقافه يؤثر ويتأثر بتلك الثقافه, نجد أن أن هذه السلطويه تمثل إنعكاساً لثقافة حب السلطة المسيطره على فكرنا. من هنا يأتي الأستاذ الجامعي ليقدم نفسه للطالب على أنه السلطة التي لا تجادل ولا تناقش أكاديميا وشخصيا. تلك الصورة التي تجعل الأستاذ يظهر بصوره تتعدى حاجز طبيعته البشرية ليغدو وكأنه قادم من كوكب آخر. أكاديميا يسعى أستاذ النظام التقليدي لتقديم نفسه بصورة الإنسان كلي العلم– omniscient في مجاله, فلا تفوته فائته من قبل ومن بعد, ولا يعتريه الخطأ في أي معلومة يقدمها ولا تأتيه سنة من نسيان. الأهم من ذلك أن ذلك الأستاذ من خلال إيمانه بفوقيته على الطلبة يرفض أي رأي علمي أو فكري يخالف رأيه, ويعتبر ذلك تحديا ومن ثم يواجه ذلك بشتى طرق إطباق فم الطالب. لا شك أن هذه صورة إستبداديه بإمتياز من حيث أنها تضع الأستاذ في صورة الديكتاتور الذي لا يجادل فيما يقدم لأتباعه.
من ناحية أخرى فإن هذه الظاهرة تتناقض مع صفة الإنسان التي جلبنا الله عليها. فرسولنا قال: ( إنما أنا بشر مثلكم اخطئ وأصيب) وقال: ( كل إبن آدم خطاء). من هنا, فهذه الصوره تقدم للطلبه إلها بشريا لا تؤوده سِنة ولا نوم. الأهم من ذلك, أن هذه الظاهرة تشكل عبئا على الأستاذ نفسه. فافتراض علمه الكلي يجعله في موقف محرج أمام طلبته حين تظهر محدودية معرفته وإمكانية الخطأ من طرفه. تنسحب هذه السلطويه للأستاذ الجامعي التقليدي من الإطار الأكاديمي البحت لتتجلى على العصيد الشخصي. فيقدم نفسه بصورة الملم في جميع المجالات. فهو الطبيب وهو المهندس وهو عالم الإجتماع وهو من أوقف الحرب البارده في القرن العشرين !!!
وكما هو الحال في الإطار الأكاديمي, يرفض الأستاذ المستبد هنا أي مخالفه لرأيه الشخصي ويفترض من الطالب تقديم آيات التبعية في الفكر العام والآراء الشخصية حتى في اللون الأنسب لعلبة الهديه!!! الملفت للنظر أن الطالب على وعي تام بهذه الصورة غير المرضيه للأستاذ الجامعي, ولكنه يتماشى معها ( عشان ما يحمل الماده!!!). إعتدنا دائما أن نلقي اللوم على الطالب في كل شيء. فالطالب مستواه متدني, والطالب غير مهتم بالدراسه, والطالب يسعى وراء تيارات العنف الجامعي. أعتقد أنه قد حان الوقت لنمارس نحن أساتذة الجامعات نوعا من جلد الذات البناء. فنحن لا نقدم علماً فقط. نحن نقدم أنموذجأ للطالب يحتذيه في شتى مناحي حياته. من هنا, أذا إستمرت عقلية العصور الوسطى في أسلوبنا التعليمي فلا يجب أن نتوقع حدوث التغيير الذي نأمله لا على مستوى الجامعة ولا المجتمع. فكما بين ( فريري) فإن منهج التعليم الناقد لا يقدم فقط نظامأ تعليميا, بل منهجا اصلاحياً مجتمعيا شاملا.
ذلك أن الطالب سيحمل معه هذه الرسالة لمجتمعه وبيئته. كما ذكرنا إعلاه, فالعالم الغربي قد تعدى مرحلة النظام البنكي في التعليم منذ زمن, وأنتقل بفكرة الديمقراطية الشامله لتبدأ من الجامعة. وهنا يأتي دور الجامعة في الإسهام بالتغيير الثقافي والمجتمعي عملياً بعيدا عن التنظير. فعندما ينسلخ الأستاذ من سلطوية القرون الوسطى ويقدم للطالب نموذجا ديمقراطيا ليبراليا في شخصه وعمله وفكره فإن الطالب سيتماهى مع هذا النموذج ليعكسه في بيئته وعمله وفكره. ومن هنا يبدأ بناء المجتمع الديمقراطي …. من هنا يبدأ تقبل الآخر وحوار الحضارات الذي ننادي به. نحن معشر اساتذة الجامعات … كفانا كبتاً للطالب.. كفانا نلقي اللائمه على الغير وبيدنا أحدى وسائل التغيير… كفانا إرهاقا لعقولنا بإرث تقليدي منبوذ. ثقافة المجتمع المتحضر تبدأ من الجامعة, تبدأ من القاعة الصفيه. فلنبدأ بأنفسنا.. بإحداث التغيير في أنماط التعليم البدائيه التي رفضها العالم منذ زمن. لنبدأ بخلق أجيال واعيه تؤمن بحقها في التفكير والتعبير وترفض كل أشكال الديكتاتورية والإستبداد, ” فالقيادي الناجح لا يبني أتباعا بل يبني قادة