تحطيم حضارات يمتد عمرها آلاف السنين
تشبه الهجمة الهمجية التي تستهدف منطقة المشرق العربي حفلة جنون كبرى ، وهي تتميز بتحطيم المعالم التاريخية ، وبسرقتها والاتجار بها ، وتالياً بمحو معالم الهوية الحضارية لهذه المنطقة ، التي لا تضاهيها منطقة أخرى على وجه المعمورة ، في عراقتها وفي تنوع مكوناتها التاريخية المتراكمة على مر آلاف السنين. وهي هجمة لا تدمر التاريخ وحده ، بل تمزق هوية المنطقة الضاربة في جذورها منذ العالم القديم ، وتصيبنا بالخوف ، ليس على حاضر الإقليم فقط ، بل على مستقبله القريب والبعيد. وهذا خوف يطرح عدداً غير محدود من الأسئلة ، بينها ما يتصل بمآلات التدمير المنهجي لمعالم التاريخ والهوية ونتائج هذا التدمير : أيقود آليا إلى محو الهوية الحضارية لهذه المنطقة من العالم ؟ أم أنه يؤدي إلى استيلاد هوية جديدة ، تعبّر عن نفسها في مرحلة تاريخية ناشئة ، فتحل فيها الهمجية إلى أجل غير مسمى مكان الكتل الحضارية السابقة ؟ وهل إن قسوة العنف قادرة على طمس التاريخ ، إلى حد محو أثر حضارات يمتد عمرها آلاف السنين ، فيحولها إلى ركام أو عدم ؟ إن ما يحدث منذ سنوات في كل من سوريا والعراق ، وما كاد في لمح البصر أن يحصل في مصر ، إحدى أبرز وأهم البؤر التاريخية والحضارية في هذه المنطقة من العالم ، يبعث على رعب يفوق ما يمكن احتماله في عالم الصراعات السياسية ومناوراته. وهو أبعد مما تقول به القراءات الصبيانية التي تراه من زاوية صراع آني بين محورين سياسيين تارة ، وخلافٍ بين وجهتي نظر في تفسير معنى الدين تارة أخرى. هذه الخفة في استسهال تفسير معنى الحدث الراهن ، تصيبنا بالهلع بقدر ما تصيبنا عمليات التدمير نفسها. كيف تجوز مثلاً ، بخفة لا متناهية ، المساواة بين تماثيل يعبّر كل منها عن حقبة من حقبات التاريخ التي تعاقبت على هذه المنطقة ، بالأصنام التي كان البعض يعبدها قديماً ؟ وكيف تجوز المساواة بين المصير الذي أمر به الدين لهذه الاصنام المعبودة (التدمير) ومصير التماثيل الحجرية التي تنتصب شواهد تاريخية لا يعبدها احد ، بل يقتنيها أهل المنطقة في متاحفهم ، كعلامات حية على تعاقب الحضارات وغناها. العلامة الوحيدة التي يمكن أن تشكل عامل عزاء وبارقة أمل ، في انزياح هذه الموجة الهمجية بأقل ما يمكن من خسائر في التاريخ والهوية والمستقبل ، هي أن تاريخ الإقليم نفسه يفيد بأن موجات همجية كثيرة سبق أن اجتاحت المنطقة ، من حين لآخر ، لكن أياً منها لم يستطع أن يمحو معالم التاريخ ، الذي ظل نهره يتدفق عبر الزمن.
بقلم جمال ايوب