"الأقصـى يستغيـث ويُعـانـي سكـرات المــوت"
( بســـم الله الرحمـن الرحيــــم )
“الأقصـى يستغيـث ويُعـانـي سكـرات المــوت”
بقلم: الأستاذ عبدالكريــم فضلـو عقـاب العــزام
يقـول الله جـل وعـلا: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)).
و ثبـت فـي الصحيحيـن وغيـرهمـا مـن حديـث أبـي ذر رضي الله عنـه قـال: قلـت يـا رسـول الله: أي مسجـد وضـع فـي الأرض أوَّل؟ قـال: ” المسـجـد الحـرام” قـال قلـت: ثـم أي؟ قـال: ” المسجـد الأقصى” قلـت: كـم بينهمـا؟ قـال: “أربعـون سنـة”… إلى آخـر الحـديـث.
وورد في سـورة الإسـراء قـولـه تعـالـى: ” سبحـان الـذي أســرى بعبـده ليـلاً مـن المسجـد الحـرام إلـى المسجـد الأقصـى الـذي باركنـا حولـه لنـريـه مـن آياتنـا إنـه هـو السميـع البصيــر”.
ويعــرف إخـوانـي القـرّاء أن المسجد الأقصى هـو أولـى القبلتيـن حيـث كـان المسلمـون يتـوجهـون إليــه فـي صلاتهـم مـع بدايـة الدعـوة إلى أن جـاء أمـر الله بالتوجـه إلـى البيـت الحـرام ” الكعبـة المشرَّفـة”.
مـن هـذه المقـدمـة المختصـرة يتعـرَّف القـاريء أن كـل هـذا القـرب الـزمانـي والمكـاني بيـن الحـرميـن المكـي والقدسـي واختيـار الأقصى ليكـون محـط إسـراء الـرسـول وانطـلاقـة معـراجـه إلـى السمـاء وأن يكـون القبلـة الأولـى للمسلميـن، كـل هـذا مـا كـان بمحـض الصـدفـة وإنمـا هـي إرادة الله التـي اقتضـت أن يكـون المسجـدان توأمـاً واحـداً وأن يكـون الأقصـى الركـن الأسـاس بعـد البيـت الحـرام عنـد المسلميـن. وأن الله قـد خـصَّ الأقصـى بأن جعـل الأرض كـل الأرض التـي حـولـه مباركـة وخـصَّ ساكنيهـا بأن جعلهـم أهـل الحشـد والربـاط إلـى يـوم الديـن.
هـذا الأقصـى المبـارك ومعـه كـل فلسطيـن تعـرَّضـت لغـزوات واحتـلالات كثيـرة، كاحتلال البابلييـن، والفـرس، والـرومـان والصليبييـن ولكنـه كـان يظـل محافظـاً علـى كينـونتـه وقدسيتـه وتاريخـه وتـراثـه الـذي يسجـل تاريـخ الكـون منـذ أن أنـزل آدم مـن الجنـة وسكـن الأرض.
واليـوم يشهـد الأقصـى احتـلالاً لـم يشهـد مثلـه مـن قبـل، فبعـد أن احتـل اليهـود القـدس عـام 1967م بـدأوا بتهويـد المدينـة وتطـويقهـا بالمستعمـرات والطـرق الالتفـافيـة وبـدأوا بتهجيـر أهلهـا، والتخطيـط ليكـون غالبيـة سكانهـا مـن اليهـود.
كمـا عملـوا من خلال التدخـل في شؤون الدول العربية والاسلامية على أن ينشأ في هذه الدول بعض من جيل لا يعرف الأقصى ولا يعرف مكانته الدينية، جيل منشغل بنفسه وبقضاياه الحياتيَّة من مأكل ومشرب وملذات حياة. وأخيراً أشغلته بما هو أعظم، بربيع عربي دموي صار فيه الأخ يقتل أخاه ويتآمر عليه، وصار الواحد فينا يرى الأجنبي واليهودي أقرب إليه من أخيه وأحب إليه من صاحبته وبنيه أمام هذا المخطط اليهودي المدروس، والمخطط واضح الأهداف وأمام هذا الواقع العربي والإسلامي المؤلم المتسارع في الانحدار ماذا ينتظر العرب والمسلمون، وماذا يتوقعون أن يكون مصير الأقصى الذي هو غاية غايات اليهود وبني صهيون.
العرب نائمون عن مقدساتهم وعن أرضهـم وعـن أنفسهـم وكـل المسلميـن مثلهـم، ولكـن الشـيء المُحـزن أن نومـة العـرب طويلـة وقـد تطـول أكثـر فـلا يستفيقـون إلا بعـد أن يكـون كـل شـيء قـد انتهـى ” طـارت الطيـور بأرزاقها”.
نعـم:
كـم وخـزت تركيـا العـرب ولـم يستيقظـوا، و كـم آذاهُـم الاستعمـار وقسَّمهـم إلـى دويـلات مُتناحِـرة ولـم يستيقظـوا وكـم فعلـت بهـم إسرائيـل وأعـداء الأمـة ولـم يستيقظـوا؟
كـم صـاح بهـم شعـراؤهم وأدبـاؤهم ومـن أبـرزهم الشّـاعر إبـراهيـم اليـازجـي ليستفيقـوا إذ يقـول:
تَنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَــرَبُ فقد طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ
فِيمَ التَّعَلُّـلُ بِالآمَــال تَخْدَعُـكــُم وَأَنْتُـمُ بَيْـــنَ رَاحَــاتِ الفـنــا سُلـــــبُ
اللهُ أَكْبَــرُ مَا هَــذَا المَنَـامُ فَقَـــدْ شَكَاكُـمُ المَهْـدُ وَاشْتَـاقَتْـكُــمُ التُّــــرَبُ
كَمْ تُظْلَمُونَ وَلَسْتُمْ تَشْتَكُونَ وَكَمْ تُسْتَغْضَبُونَ فَلا يَبْدُو لَكُمْ غَضَـبُ
أَلِفْتُمُ الْهَوْنَ حَتَّى صَارَ عِنْدَكُمُ طَبْعَاً وَبَعْـضُ طِبَـاعِ الْمَرْءِ مُكْتَسَـــبُ
وَفَارَقَتْكُمْ لِطُولِ الذُّلِّ نَخْوَتُـكُـمْ فَلَيْسَ يُؤْلِمُكُــمْ خَسْـفٌ وَلا عَطَـبُ
ولم يستفيقــوا…
كم نبَّـه الشُّعـراء الأمـة بعامَّـة وأهـل فلسطيـن بخاصَّـة قبـل نكبـة فلسطيـن أن المستقبـل مظلـم وأن غفلـة الأمـة ستُوصلهـا إلـى الضّيـاع فهـذا “ابراهيـم طوقـان” يقـول:
أمامَــك أيُّهـا العربيُّ يــومٌ تشيبُ لهولهِ سودُ النواصي
مصيرك بات يَلْمُسُه الأَّداني وسار حديثُــهُ بيــن الأَقاصـي
فلا رَحْبُ القصور غداً بباقٍ لساكنها ولا ضيق الخصاصِ
وقـد وقـع أهـل فلسطيـن بمـا قـال فـصـرنا نجـد أمـراء فلسطيـن ووجهائهـا وساداتهـا يعيشـون فـي المخيمـات بـدل القصـور وبيـارات البـرتقـال.
نعــم:
إنني أشعُـر وبمنتهـى الحُـزن والألـم أن الأقصـى يحتضـر وأنـه يشهـد الفصـل الأخيـر مـن شهـور عمـره وأن سيكـون أول ثمـار الربيـع العـربـي التـي ستسقـط ويأكلهـا شـذَّاذ الآفـاق.
كيف لا والأقصى يستغيـث فـلا يُستجـاب ويستبـاح فـلا يجـد مـن يثـأر لـه ولـولا الصـوت والغضبـة الهاشميـة والغيـرة الأردنيـة والفلسطينيـة لقلـت أن الأقصـى لا بواكـي لـه، فلـم نسمـع موقفـاً قويـاً بمستـوى الحـدث مـن العـرب أو المسلميـن مـن أمـة المليـار ونصـف المليـار، وكأنهـم يلقـون بالحمـل كـل الحمـل علـى الفلسطينييـن والأردنييـن ليحـرروا الأقصـى وفلسطيـن أمـا بقيـة الأمـة فهـم كبنـي إسـرائيـل عنـدما خاطبـوا مـوسى قائليـن “فاذهـب أنـت وربـك فقاتـلا إنـا هاهنـا قاعـدون”.
وفـي الختـام فإننـي أقـول للبيـت ربُّ يحميـه ولله عبـاد صـادقـون أولـي بـأس يسلّطهـم علـى الظالميـن فـي يـوم لا مفـرّ منـه وليعلـم الأقصـى وعمّـاره وأوصيـاؤه أننـا معهـم بأموالنـا وأولادنـا وأرواحنـا نبذلهـا رخيصـة فـي سبيـل الله وتحـريـر الأقصـى مهمـا ادلهمـت الخطـوب ومهمـا عظمـت المصـائـب.
الكاتب: الأستـاذ عبدالكريـم فضلــو عقـاب العـزام