سؤال متفرع أدى إلى تفسير ظاهرة مصرية
الدكتور: رشيد عبّاس
كثير من الظواهر في عالمنا العربي نمرُ عليها مر الكرام دون أية توقف, ولعل من هذه الظواهر التي كانت تشكل استغراب وغرابة من نوع معين لديّ وربما لدى الأخرين ظاهرة وجود أكبر- مع أخذين بعين الاعتبار النسبة والتناسب في حجم السكان, وجود أكبر عدد من قرّاء القران الكريم المحترفين البارعين من جمهورية مصر العربية,..بدأت القصة لدّي منذُ خمسة أعوام عندما قرأت في احدى الصحف الالكترونية مقولة شهيرة كان مفادها: أن القرآن الكريم نزل في مكة المكرمة, وكتب في العراق, و(قُرئ) في مصر! وبكل صراحة توقفت عند جزء من هذه المقولة والمتعلقة بـ قُرئ القرآن الكريم في مصر, لم اجد وقتها بالرغم من المحاولات العديدة أجابه شافية ووافية لذلك, وبعد فترة طويلة من الزمن, ومع إسراري الشديد للوصول إلى الأسباب التي تقف وراء هذا العدد الكبير من قرّاء القران الكريم المحترفين والبارعين من جمهورية مصر العربية الشقيقة, اعتقدتُ جازما أن الإجابة يجب أن تأخذ من أفواه اهلها شفويا, وليس من غيرهم.
ومن اجل اخذ الإجابة من أفواه اهلها (شفويا) وليس من غيرهم, ولتعذر ذهابي إلى جمهورية مصر العربية الشقيقة, فقد ارتأيتُ أن اطرح سؤالي المتفرع على الأخوة المصريين المتواجدين في الأردن حيث يمثلوا عينة ممثلة لجميع مناطق ومحافظات جمهورية مصر العربية, ومن ثم قمت بتدعيم الإجابات من خلال طرح نفس السؤال المتفرع على الإخوة المصريين المتواجدين على ارض مصر وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وبالذات عبر الواتس منها, وقد تم طرح السؤال المتفرع الاتي: هل تستمع للقرآن الكريم؟..ولماذا تسمعه؟ على نحو (250) من الإخوة المصريين المتواجدين على ارض المملكة الاردنية الهاشمية وعلى فترات زمنية ربما كانت متباعدة نوعا ما كعينة ممثلة, وطرح نفس السؤال المتفرع على نحو (25) من الإخوة المصريين المتواجدين على ارض مصر وعبر الواتس.
المفارقة الجميلة أن الإجابات عن السؤال الرئيسي المتفرع هل تستمع للقرآن الكريم؟..ولماذا تسمعه؟ والذي تم طرحها على كل من الإخوة المصريين المتواجدين على ارض المملكة الاردنية الهاشمية, وعلى الاخوة المصريين المتواجدين على ارض مصر كانت متقاربة إلى درجة عالية جدا, وللوصل إلى الاسباب الحقيقية التي تقف خلف وجود أكبر عدد من قرّاء القرآن الكريم المحترفين من جمهورية مصر العربية الشقيقة مقارنة مع باقي الدول العربية, فقد قمت بتصنيف الإجابات إلى ثلاثة مجالات رئيسة وحسب عدد الذين اشاروا اليها من المستجيبين, وكانت على النحو الاتي: المجال الأول كان يتعلق بورود اسم مصر, وكثير من أسماء الأشخاص المصرية, وأسماء الأماكن المصرية, والأشياء المتعلقة بمصر في القرآن الكريم سواء كان ذلك بشكل صريح أو غير صريح, أما المجال الثاني فكان يتعلق بدافع أخذ الطمأنينة والراحة النفسية في الدنيا, في حين أن المجال الثالث فقد كان يتعلق بدافع أخذ الأجر والثواب في الآخرة.
ففي المجال الأول والمتعلق بورود اسم مصر وكثير من اسماء الأشخاص والأماكن والأشياء المتعلقة بمصر في القرآن الكريم, سواء كان ذلك بشكل صريح أو غير صريح, حيث أن كلمة مصر ذكرت خمسة مرات في القرآن الكريم, وأن كثير من أسماء الأشخاص المصرية وردت في القرآن الكريم كالنبي أدريس عليه السلام وفرعون وهامان وقارون, وأمرة العزيز ونسوة مصر وعزيز مصر وملك مصر الذي عاصر النبي يوسف, ومفسري الإسلام المصريين وسحرة فرعون.., كذلك ورود أسماء عدة أشياء من مصر كالعجل والحلي والشجر وثمود والاهرامات (الأوتاد).., أما أسماء الأماكن التي وردت في القرآن الكريم فكان من أبرزها جبل الطور وسيناء ونهر النيل والبحر الاحمر وربوة مريم وجنات وعيون وزرع ومقام كريم.
وفي المجال الثاني والمتعلق بأخذ الطمأنينة والراحة النفسية في الدنيا, فقد اشار معظم الـ(275) من الإخوة المصريين والذين أجابوا عن السؤال الرئيسي والمتفرع: هل تستمع للقرآن الكريم؟..ولماذا تسمعه؟ من حيث استماعهم للقرآن الكريم وإنصاتهم له كان بهدف اخذ الهدوء والطمأنينة وزيادة الشعور بالسعادة والراحة النفسية والتخلص من أثار الحزن والاكتئاب التي يمرون بها, كذلك اشار هؤلاء إلى أن استماعهم للقرآن الكريم وإنصاتهم له كان بهدف تخفيف درجات التوترات النفسية التي يمرون بها.
في حين أن المجال الثالث والذي كان يتعلق بأخذ الأجر والثواب في الآخرة, فقد اشار معظم الذين شاركوا في الإجابة عن السؤال الرئيسي والمتفرع إلى أن استماعهم للقرآن الكريم وإنصاتهم له كان بهدف أخذ الأجر والثواب في الآخرة والذي يناله مستمع القرآن الكريم والمنصت له, حيث اشار هؤلاء أن اجر المستمع للقرآن الكريم والمنصت له لا يقل عن أجر قارئه يوم القيامة, ويبدوا هنا أن لدى المصريين ثقافة الاستماع للقرآن الكريم والإنصات له, وأن مثل هذه الثقافة قد جاءت من آباء وجداد هؤلاء المصريين القدامى والذين كانوا ربما لا يجيدوا مهارة القراءة, حيث يقوم هؤلاء بالتعويض عن ذلك من خلال الاستماع والإنصات للقرآن الكريم.
تقول المصادر العربية والأجنبية أن عدد قرّاء القرآن الكريم في جمهورية مصر العربية ومذُ عام 1930م وحتى اللحظة قد بلغ أكثر من (90) قارئاُ, وصل منهم أكثر من (10) قرّاء تقرياُ الى مستوى الاحتراف والإبداع والشهرة, وكان من أبرز هؤلاء: الشيخ على محمود, الشيخ محمد رفعت, الشيخ عبد الفتاح الشعشاي, الشيخ مصطفى أسماعيل, الشيخ طه الفشني, الشيخ محمد المنشاوي, الشيخ ابو العينين شعيشع, الشيخ عبد الباسط عبد الصمد, الشيخ محمد خليل الحصري, الشيخ محمود علي البنا.
والسؤال هنا, ما هي الأسباب الحقيقية والتي تقف خلف الزيادة الواضحة في أعداد هؤلاء القرّاء المصريين ليصل العدد إلى ما يزيد عن (90) قارئاُ تقريباُ, ووصول أكثر من (10) قرّاء من بين هؤلاء إلى مستوى عال من الاحتراف والإبداع والشهرة العالمية؟
يبدوا أن كثرة الاستماع والإنصات للقرآن الكريم من قبل المجتمع المصري والمثير للجدل في جميع الاوقات العادية وفي جميع المناسبات الاجتماعية ادى بدوره إلى زيادة أعداد القرّاء المصريين والتنافس الشديد فيما بينهم, وأدى كذلك إلى استخدام وتوظيف الـعشر قراءات للقرآن الكريم المعروفة وتعددها عندهم, كذلك أدى إلى تحسين الأصوات وصقلها, وأدى كذلك إلى تعدد القراءات وتنوعها من حيث الترتيل والتجويد والتلاوة, والتنافس الشديد بين القرّاء الى أن وصل عدد منهم إلى مستوى الاحتراف والإبداع والشهرة العالمية.
وتبين ايضاُ من خلال طرح السؤال المتفرع على الإخوة المصريين, أن المصريين الـ(مستمعين) لقراءة القرآن الكريم هم الاكثر من الـ(منصتين) لقراءة القرآن الكريم والتي تتطلب منهم الفهم والتحليل والربط أكثر من المستمع اثناء الاستماع, وتبين ايضاُ أن فئات الذكور المصريين هم الأكثر استماعا من فئات الإناث, وأن المصريين في الأرياف هم الأكثر استماعا من المصريين في المدن, وتبين ايضاُ أن المصريين الذين لا يجيدوا مهارة القراءة هم الأكثر استماعا من المصريين الذين يجيدوا مهارة القراءة, وأن المصريين في مناسبة العزاء هم الأكثر استماعا منها في المناسبات الاخرى والتي يوجد فيها استماعاُ ايضاُ, وأن المصريين المستمعين والمنصتين للقراءة بطريقة التلاوة هم الأكثر استماعا وإنصاتا للقراءة بطريقة الترتيل أو التجويد, وتبين كذلك أن المصريين المستمعين للسور المذكور فيها اسم مصر هم الاكثر من المصريين المستمعين للسور المذكور فيها الأسماء والأماكن والأشخاص والأشياء المصرية مع وجود مستمعين للسور المذكور فيها الأسماء والأماكن والأشخاص والأشياء المصرية ايضاً.
وهنا تشير كثير من الأبحاث العلمية المتعلقة بخلايا الدماغ, تشير إلى أن خلايا الدماغ تبقى في حالة اهتزاز دائم طيلة فترة حياتها وذلك نتيجة للأحداث والمتاعب والجهود والمشاق اليومية والتي يمر بها الانسان بشكل عام, وتشير كذلك الأبحاث العلمية أن طبيعة الاصوات المتعلقة بكلمات القرآن الكريم ومفرداته لها طبيعة أمواج مختلفة, ولمثل هذه الكلمات والمفردات القرآنية طبيعة ترددات خاصة بها ومختلفة أيضاُ, حيث تبعث هذه المفردات والكلمات القرآنية حقولاُ اهتزازية متنوعة تعمل على أعادة توازن وفرمة وبرمجة خلايا الدماغ والتي هي في حالة اهتزاز دائم طيلة فترة الأحداث والمتاعب والجهود والمشاق اليومية والتي يمر بها الإنسان كي يبقى أداء هذه الخلايا فاعلاُ وقائماُ.
وتؤكد كثير من الابحاث المتعلقة بطبيعة حياة المجتمع المصري بالذات وتاريخها أن طبيعة حياة المجتمع المصري كانت مليئة بالأحداث والمتاعب والجهود والمشاق اكثر من غيرهم من المجتمعات العربية, وهذا من شأنه بقاء خلايا الدماغ في حالة اهتزاز دائم طيلة فترة حياتها وذلك نتيجة للأحداث والمتاعب والجهود والمشاق اليومية التي يمر بها المجتمع المصري, ولأن طبيعة صوت كلمات القرآن الكريم ومفرداته لها طبيعة أمواج خاصة بها ومختلفة, وكذلك لها طبيعة ترددات خاصة ومختلفة بها أيضاُ, حيث تبعث هذه المفردات والكلمات حقولاُ اهتزازية تصل للدماغ لتعمل على أعادة توازن وفرمة وبرمجة خلايا الدماغ والتي هي في حالة اهتزاز دائم طيلة فترة الأحداث والمتاعب والجهود والمشاق اليومية, وذلك من أجل أن يبقى أداء هذه الخلايا فاعلة وقائمة, وهذا ربما يكون هو السبب المباشر والذي دفع ويدفع غالبية المجتمع المصري إلى الاستماع والإنصات المستمرين للقرآن الكريم على الدوام أكثر من غيرهم من المجتمعات العربية الاخرى.
الأمر الذي ادى بدوره إلى (زيادة) أعداد القرّاء المصريين والتنافس الشديد والشريف فيما بينهم, ومن ثم وصول عدد منهم إلى مستوى الاحتراف والإبداع والشهرة العالمية, وهذا ما يؤكد دون أدنى شك صحة المقولة الشهيرة: أن القرآن الكريم نزل في مكة المكرمة, وكتب في العراق, و(قُرئ) بإبداع واحتراف في جمهورية مصر الشقيقة, وهنا ادعوا آخرون بطرح أسئلة جديدة تدور حول, لماذا نزل القرآن الكريم في مكة المكرمة؟ ولماذا كُتب القرآن الكريم في العراق؟
كتب . د. رشيد عباس