0020
0020
previous arrow
next arrow

خبران أحلاهما مُرُّ

0

خبران أحلاهما مُرُّ
راتب عبابنه
تتناقل المواقع الإلكترونية أحيانا أخبارا بعيدة عن الواقع وإذا أخضعناها للمنطق فلا تستقيم ويقصد منها الإثارة والثأر أو خلق مادة تفاعلية. وأحيانا يتم استغلال خبر يبدو عاديا للوهلة الأولى لكن يطرح بالحس الصحفي لإيصال رسالة تنبيهية لتأخذ الناس حذرها وهذا من صميم العمل الصحفي. وأحيانا أخرى يكون القصد تسليط الضوء على قضية ما لتحريك الماء الراكد الذي يخفي تحته ما يخفيه من الرواسب والطحالب. هذه الأيام تم تناقل خبرين لا يقل أحدهما عن الآخر أهمية. كلاهما يستدعيان الوقوف والتمعن والتمحيص.
الخبر الأول ينص على عرض أمريكي بريطاني بتوطين فلسطينيي سوريا الحاملين لوثائق سفر صادرة عن الدولة السورية منذ أكثر من أربعين عاما, وبالطبع منحهم أرقاما وطنية وجنسية حال قدومهم. وذلك مقابل إعفاء الأردن من كل ديونه التي هم وأزلامهم السبب بوجودها. خبر كهذا يحمل الكثير من أسباب التصديق من قبل القراء والمتابعين إذا لم نتجاهل الظروف الراهنة آخذين بالحسبان الإقتصاد المتآكل الذي يبدو عصيا على التحسن لكثرة برامكتنا والمتاجرين بمقدراتنا, والظروف السياسية العامة التي تعصف بالمنطقة والإقليم, والحالة السورية المتصاعدة التأزم وانعكاساتها على الحالة الأردنية بالإضافة للدفع الأمريكي الإسرائيلي نحو عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة بجوار اسرائيل.
بوجود هذه الظروف والتوليفات المدروسة بعناية وبنفس طويل المدى من برامكة الداخل مع أسيادهم بالخارج, أصبحنا نلمس ما حذرنا منه مرارا وتكرارا مع الكثير من غيارى الأردن. ولا نستبعد تسريب الخبر بهدف رصد رد فعل الشارع والمهتمين والمتابعين من الأردنيين وغيرهم من حاملي الجنسية الأردنية. وفكرة العرض السخي ليست جديدة أو طارئة وإن جاءت “تسريبا” أو من “مصدر مطلع” أو من “شخصية ذات وزن قريبة من مطبخ القرار” وما شابه من عبارات إضفاء المصداقية, فهي بالمحصلة مطروحة من أطراف ساهمت وخططت لخلق الظروف الحالية التي تجعل المناخ مهيئا وقابلا ولو من وجهة نظرهم, لطرح مثل هذا العرض المفخخ.
وقد سبق ودعونا أولي الأمر للتنبه لهذا المخطط وأخذ الحيطة والحذر لما يمكن أن تؤدي إليه ظروفنا المتسارعة السوء. وذهبت لحد إتهامهم بتعمد تهيئة الظروف التي تؤدي بالناس القبول بما كان مرفوضا. وها هي مرحلة العوز والحاجة الماسة لتسوية الإقتصاد والإيفاء بالإلتزامات المالية قد حان استخدامها كورقة ضغط من جهات متعددة مما فتح المجال رحبا للإملاءات بعد أن أوصلونا لنقطة اللاعودة.
وهذا الطرح الذي بريقه يذهب الأبصار للوهلة الأولى هذا إذا ما أخذناه بحرفيته مغفلين الهدف الحقيقي منه ودون ما يترتب عليه من خطورة تلحق بالأردن الوطن وفلسطين الوطن المحتل, نفهم هذا العرض كبداية لتحقيق المقولة الصهيونية الأسطورية الرامية لوطن بديل للفلسطينين بالأردن. وإن قبل العرض فيعني بيع الأردن كجغرافيا بعد أن بيعت تضاريس ومعالم هذه الجغرافيا. وبعدها سيعرض علينا استيعاب فلسطينيي لبنان والذين هم بدورهم يحملون وثائق سفر صادرة عن الدولة اللبنانية منذ أكثر من أربعين عاما ومنحهم أرقاما وطنية وجنسية حال دخولهم الأردن.
وسيتبع ذلك لم شمل فلسطينيي الشتات من كل أصقاع الأرض وتجميعهم بالوطن البديل. وهذا الترتيب والتوليف لا يحتاج لدماغ أينشتايني لفهمه. فهو تحقيق مقولة الوطن البديل وإغلاق ملف القضية الفلسطينية، ومن ينادي بعد ذلك بحقه بفلسطين يصنف مع الإرهاب المنادي بإزالة اسرائيل وربما يخلقوا منظمة جديده باسم جديد لتسيهل وقوننة المقاومة من شتى دول العالم كما هو حاصل مع تنظيم القاعده. ولا يستبعد استصدار قانون دولي يجرّم من يطالب بحقه بفلسطين كما شرع قانون معاداة السامية وقانون إنكار الهولوكوست أو التشكيك بتفاصيله وحقيقته.
نذكر بما سبق وقلناه مرارا أن الشعب إذا مضى بطريق لن يحيد عنه إلا بما يرضيه ويحقق مطالبه مهما تعرض للضغط والفقر والتضييق وحتى لما يغريه. الأردني لن يقبل بأن تهمش هويته وتنصهر أردنيته ويتلاشى كيانه كما أن الفلسطيني لن يقبل بديلا عن أرضه مهما كلفه ذلك من ثمن. وبالنهاية كلنا شركاء بالهم الفلسطيني كقضية مركزية، ورفضنا ومحاربتنا للتوطين يأتيان من دافع الحفاظ على وطننا الأردن كما هوالحفاظ على الوطن الفلسطيني. وإن تقاسمنا مع الأشقاء الفلسطينيين كل ما نملك فلا يعني ذلك قبولنا بالتوطين على حساب الأردن وفلسطين.
والخبر الآخر يقول باتفاق روسي أردني بإقامة قاعدة مصانع أسلحة عسكرية توفر ربع مليون فرصة عمل للأردنين مما يعني القضاء على البطالة. ومصداقية هذا الخبر تأتي من خلال الخصوصية والتوقيت التي اتسمت بهما زيارة جلالة الملك الأخيرة لروسيا والإجتماع المغلق بين جلالته والرئيس بوتين. وهذا الإنسجام الأردني الروسي جاء على ضوء الإنسجام بموقف الدولتين من الأزمه السورية وتنافره مع الموقف الأمريكي والأوروبي والخليجي المتمثل بالضغط على الأردن لإعلان معاداته للنظام السوري. وما يدفع بالتقارب الأردني الروسي المماطلة الأمريكية والوعود التي لا تنفذ والضغوط المؤدية لتحقيق مصالح إسرائيل على حساب الأردن. وكذلك المواقف الخليجية المرهونة بمباركة أمريكا دفعت أيضا وسرعت التقارب الذي ربما وجد جلالة الملك لا مناص منه للخروج من حالة الإنتظار والتسويف والإبتزاز والإملاءات المهينة لوصول الصدقات التي لا تجدي نفعا مع الإقتصاد الأردني.
ودول الخليج وعلى رأسها السعودية لا ترحب بتواجد المارد الأحمر قريبا من حدودها وهذه قناعة تاريخية متجذرة تنسجم مع الرغبة الأمريكية وتجعل من المنطقة خالية من وجود منافس قوي لأمريكا. وها نحن نواجه الضغوط الخليجية التي تنوب عن أمريكا بدفعنا للرضوخ لرغبات المخطط الصهيوأمريكي. ولذلك جاءت الزيارة الملكية لروسيا بتوقيت دقيق وحساس لإيصال رسالة هاشمية لكل القوى الضاغطة بتوفر البديل الإستراتيجي وأن الأردن لا يخضع للإبتزاز ولا يساوم على ثوابته ومرتكزاته.
والأردن كما يعلم الجميع مارس وسيبقى يمارس دورا رادعا للكثير من الأخطار التي كانت تستهدف دول الخليج وذلك في سياق دوره العروبي وشعوره بالمسؤولية المشتركة تجاه أشقاء يرى من نفسه سندا لهم أمنيا وعسكريا وتعليميا منطلقا من تعاليم دينه الحنيف وإيمانه بوحدة الدم وحفاظا على الجوار. الأردن منطقة عبور للمخدرات التي وُجهتها السعودية بالمقام الأول فكفاهم الأردن شر ذلك والسعودية مستهدفة دينيا وثقافيا لثقلها السياسي والديني والمالي ولدورها المؤثر بالعالم الإسلامي كحاضنة للمقدسات وراعية لها فكان الأردن ساهرا لتأمين الأمن الحدودي الذي يعمل على استقرار الوضع ليجعل الجهد السعودي منصبا على الأمن الداخلي الإعتيادي. وبهذا المقام لسنا من الناكرين لما قدمته السعودية وشقيقاتها من مساعدات للأردن لكن ليعلموا أننا أحرار لا نأكل بأثدائنا ولا نقبل من يلامس كرامتنا كائن من كان.
وها هو ابن الحسين على نهج والده يحسم أمره بعد أن بلغ السيل الزبى غير عادم للبدائل التي من شأنها أن تقلب معادلة النهج الرتيب بعد أن تبين ارتفاع ثمن المضي بهذا النهج الذي يمكن أن يسبب ما لا يقبل به الأردنيون. وهذا يذكرنا عندما صُمّت الأذان وغلّقت الأبواب أمام محاولات الحسين لتجنيب المنطقة ويلات الحروب محاولا حل موضوع احتلال الكويت سلميا وبالحوار وقد مهد له طيب الله ثراه وكادت محاولاته أن تأتي أكلها لكنها اصطدمت بعمالة المرمي على فراش الموت حسني مبارك وانخدع الباقون بتهويل الأمر وتصوير صدام بأنه هولاكو العصر الحديث الذي سيجتاح جزيرة العرب ويتقاسمها مع الهاشميين وانطلت الحيلة على صناع القرار بالمنطقة. وها نحن نجني نتائج عدم الإستماع لصوت العقل الهاشمي الصادر من الأردن الذي طالما كان وما يزال حريصا على التضامن العربي والمنادي بوحدة الصف العربي لإدراكه مدى خطورة العدو ولفهمه للعقلية الغربية ودهاليزها.
وإن قال قائل لا نريد تواجدا روسيا بين ظهرانينا من قبيل الخوف من القوى الإستعمارية الكبرى ومن قبيل الإستقلالية وعدم رهن مواقفنا للغير، نذكر بوجود المصانع الإسرائيلية بمدينة الحسن الصناعية بمدينة إربد والتي خيرها لإسرائيل واليد العاملة الآسيوية, أما العمالة الأردنية فيطالها الفتات. فالحضور الروسي لن يشكل خطورة كما يشكله الحضور الإسرائيلي. وبالأحرى الحضور الإسرائيلي بالأردن جاء ليوفر على إسرائيل من الأموال أكثر بأضعاف مما يجنيه الأردن مقابل هذا الحضور.
بالنسبة للإتفاق الأردني الروسي، نراه مشروعا إستثماريا بحتا يحتاجه الأردن ويخلق ربع مليون فرصة عمل لأبناء الأردن كما يأتي في إطار خلق دفاع مشترك مع دولة لها حضورها الدولي وتأثيرها بإتخاذ القرارات الدولية وحق الفيتو ويمنكها أن تكون مساهما بالسلام. ونذكر بهذا المقام المطالبات الدائمة للمرحوم الحسين طيب الله ثراه بإشراك روسيا ومن قبلها الإتحاد السوفياتي بعملية السلام لخلق توازن مع الولايات المتحدة حتى لا تنفرد الأخيرة بقراراتها وإملاءاتها. بُعد نظر كهذا قلما تحلى به أناس على مدار تاريخنا المعاصر على أقل إعتبار. ونضيف أن روسيا ليست لها أطماع استعمارية ورغبة بالسيطرة والهيمنة كالتي لدى أمريكا التي تحركها وتوجهها الصهيونية المتجذرة بكل مفاصل الدولة الرئيسة من صناعة للقرار وتوجيه للصحافة وسيطرة على المال وهيمنة على الإنتاج السينمائي وتحكم بقنوات اختيار الرئيس.
وقبل التقارب مع الروس، جاءنا العرض الإيراني المحفوف بالمخاطر الدينية والتوجس الخليجي إن لم يكن الرعب. بعيدا عن البعد الديني علينا الأخذ بالحسبان الإنسجام الإيراني الروسي والتعاون الإقتصادي والعسكري. وهذا كله بنهاية الأمر يبعد شبح الهيمنة الأمريكية المتفردة والمنفلتة والفوقية الإسرائيلية مما يخلق هامشا أوسع للأردن بالمناورة السياسية الفاعلة ويعطيه ثقلا ووزنا أكبر من ذي قبل لخلق تغييرات بمعادلات السياسة الممنهجة التي تحكم المنطقة. هذا التقارب بالتأكيد لن يلقى ترحيبا من دول الخليج ومن أمريكا لكنه يشكل دافعا قويا لهذه الدول لتراجع سياساتها تجاه الأردن وربما تكون هذه المراجعة بداية تغيير السياسة النمطية في المنطقة. ولا أظن خطوة شبل الحسين إلا حسبت بعناية ودرست طويلا واتضحت جدواها لجلالته. فامضي عبدالله لا خيب الله مسعاك وأثمرت جهودك وشعبك يحفك من كل الجهات.
ومرارة خبر التقارب تأتي من كونه دفعا من الأشقاء الذين توقعنا منهم الوقوف معنا ونحن نمر بمحنة وأزمة لا نتمناها لغيرنا. كما أن المرارة مصدرها الدولة التي نحسب من حلفائها وربما أقربهم وإذا بتحالفنا ينقلب سبة علينا وسببا بتعاستنا. ولن نغفل أيضا التقصير الداخلي بحق الحفاظ على الوطن عندما تلاعب به البرامكة الدخلاء.
والخبر المتعلق بالتوطين مقابل رفع الديون ، رفضه ينبع من رحم خطورته التي لا تخفى على الأطفال. والخبر الآخر المتعلق بروسيا تأتي أهميته وإيجابيته إذا تم الإنتباه والإتفاق على كونه مشروعا إستثماريا بحتا بعيدا عن البعد العسكري الذي عادة يتنامى ليفرض إرادته على الدولة المضيفة.
وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن . والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com