إعادة رسم الخريطة السياسية الداخلية
عندما أقدمت حكومة الاحتلال على عدوانها الوحشي الذي بدأ في الضفة الفلسطينية وراح ضحيته أكثر من عشرين شهيداً ثم تدحرج نحو قطاع غزة ، كان من الواضح المأزق الذي وصل أليه الائتلاف الحكومي المتطرف حيث لم يكن لديه خيارات واقعية للحفاظ على التوليفة السياسية التي جمعت غلاة المتطرفين وبات أمام خيارين أحلاهما مُر إما انفراط عقد الشراكة والذهاب إلى انتخابات عامة مبكّرة غير مضمونة النتائج بالنسبة لحزب الليكود الذي الذي انفكّ عنه أبرز حلفاءه “افيغدور ليبرمان” زعيم مايسمى حزب اسرائيل بيتنا ، وأضحى يشكّل منافساً قوياً يقضّ مضجع رئيسس حكومة المستوطنين”نتنياهو” للوصول إلى سدة الحكم من خلال العزف على وتر رغبات اليمين المتطرف في بازار توظيف الدم الفلسطيني وحقوقه المشروعة بغية إعادة رسم الخريطة السياسية الداخلية وكسب أصواتهم من جهة ، وتحسين صورته أمام الإدارة الأمريكية كاظمة الغيظ التي تنظر بعين الغضب أزاء سلوك رئيس حكومة الإحتلال وغطرسته بل إذلاله لرئيس البيت الأبيض ووزير خارجيته من جهة أخرى ، أو ارتكاب حماقة ضد الشعب الفلسطيني وبطبيعة الحال ساد منطق العدوان والجريمة أهون الشرور لوعي العقلية الصهيونية في محاولة لخلط الأوراق وتحويل الأنظار عن الأزمات الداخلية المتفاقمة والعزلة الخارجية المتصاعدة التي أضحت أبرز انجازات حكومة الإحتلال العنصرية .
لقد أدرك المجتمع الدولي الطبيعة الفاشية لهذه الحكومة حين أفشلت كافة الجهود المبذولة في عملية المفاوضات الفاشلة أصلاً لولا إصرار الإدارة الأمريكية على منح جون كيري وزير خارجيتها فرصة ربع الساعة الأخيرة كما تقول دامت تسع أشهر ثم تقلصت الوعود الأمريكية التي وعدت بها واستـُبدل بعرض اتفاق إطار لايمكن قبوله على المستوى الفلسطيني مايعني استحالة التوصل إلى تسوية سياسية أساسها قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالأراضي التي تم احتلالها في 67 “وبدعة حل الدولتين مجهول المعالم والتعريف “، وبالتالي جاء توقيت إختطاف المستوطنين الثلاث دون معرفة الجهة الفاعلة حينها باستثناء الرواية الصهيونية في المناطق التي يسيطر عليها الإحتلال حسب التصنيفات الجغرافية الأمنية للأراضي الفلسطينية كي تكون الذريعة لساعة بدء تنفيذ العدوان وتغيير السياسات الإستراتيجية التي أشار اليها رئيس حكومة الإحتلال في وقتٍ سابق بعد إقدام الجانب الفلسطيني بالإنضمام لخمسة عشر منظمة وهيئة واتفاقية دولية كان قد وعد بتأجيلها لإتاحة المجال أمام العملية السياسية وكذا تشكيل حكومة التوافق الوطني ، الأمر الذي أثار حفيظة دوائر صنع القرار في تل أبيب التي رسمت سياساتها وفق منظور تجزئة الشعب الفلسطيني والإستمرار بالمفاوضات من أجل المفاوضات في الوقت الذي تستثمر فيه كل لحظة لاستكمال مشروعها الإستعماري الإ ستيطاني وترسيخ سياسة الامر الواقع للقضاء على امكانية تجسيد الكيانية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والإعتراف الدولي قبل عامين بمكانة فلسطين الدولة الواقعة تحت الإحتلال .
ان العدوان على قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية ماكان ليحدث لولا الرعاية والحماية الأمريكية ومن يدور في فلكها وصمت المجتمع الدولي المريب الذي يجعل من كيان الإحتلال حالة فوق القانون الدولي الذي ولـّد لديه قناعه مطلقة بأنه لايخضع للمسائلة أو المحاسبة أمام المؤسسات الدولية لهذا يعتقد بأن مايقوم به من جرائم هو تحصيل في حكم المسلـّمات إذ لاينطبق علية المعايير التي تسري على الأخرين الأغيار”الذين سخرّهم الله لخدمته” وهذا منطق أيديولوجي يرتبط مباشرة بعقدة التفوق العنصري ، تجلى ذلك بالسقوط الأخلاقي حين سارعت الإدارة الأمريكية التي كانت على علم مسبق بتوقيت العدوان تبنيها الرواية الصهيونية وتسويقها مقولة حق العدو الصهيوني الدفاع عن نفسها ، ثم تلاها الأخرين من قادة أوروبا الذين خرجت شعوبهم إلى الساحات والميادين تعبيراً عن إدانتهم لجرائم جيش الإحتلال في مشهد غير مسبوق ماجعلهم يلوذون الصمت والإنكفاء عن توفير الغطاء لقاتلي الأطفال والنساء والشيوخ ، أما السيد السكرتير العام للجمعية العامة للأمم المتحدة فلم يخرج عن ركب الطغاة بصمته المخزي أو مساواة القاتل بالضحية في أحسن الأحوال أزاء المذابح الوحشية بما في ذلك الإستهداف المتكرر للمؤسسات التعليمية التابعة لوكالة الغوث التي استجار بها الأطفال والنساء والعوائل المهجّرة من بطش الجيش “الأخلاقي ” الذي يتفاخر بقتل المدنيين وتدمير المساكن فوق رؤوس ساكنيها وهم نيام بينما يفرّ مذعوراً في المواجهات أمام عنفوان المقاوم الفلسطيني وشدة بأسه .
يستطيع العدو أن يختار اللحظة التي تمكنّها من ارتكاب العدوان بالنظر إلى اختلال موازين القوى القائمة لصالحها من الناحية العسكرية والسياسية ، كما يستطيع أن لايبقي حجراً على حجر في كل المدن والقرى الفلسطينية ولكنها لاتستطيع أن تدّمر إرادة الشعب الفلسطيني بالثبات على الصمود والتمسك بالحقوق والتصدي للمخططات الصهيونية حتى لو كان منفرداً بلا دعم أو اسناد عربي حقيقي نظراً للتداعيات التي تمرّ بها المنطقة العربية ، كما أنها لاتسطيع إنهاء الحرب بالشكل الذي تريد بعد المفاجأت التي لم تكن واردة لها في الحسبان من حيث الإعداد والتكتيك المُتقن لدى فصائل المقاومة وتطوير قدراتها الميدانية بالرغم من عدم التكافؤ التسليحي الذي لايقارن بين الحالتين لكنها استطاعت أن توسّع ميدان عملياتها بما يغطـّي مساحة فلسطين التاريخية إضافة إلى الأفضلية التي تمتعت بها المقاومة كلما حاول الغزاة الزجّ بالقوات البرية في المعركة وإحداث عنصر المفاجأة عبر شبكة الأنفاق خلف الخطوط ثم العودة إلى قواعدها سالمة بعد أن تكبد العدو خسائر فادحة بالأرواح والعتاد الأمر الذي جعل المستوى السياسي مرتبك ومتردّد في خوض معركة برية حاسمة تكون نتائجها كارثية على قوة الردع التي تغنى بها جيش الإحتلال منذ نشوء كيانه حتى يومنا هذا وبالتالي انتهج سياسة قوة التدمير وقتل المدنيين للتغطية على نهاية اسطورة قوة الردع التي يريد الحفاظ عليها أمام جمهوره الذي بدأيطرح علامات تساؤل حول مصداقية مايروّج له من أكاذيب أضحت جزءاً لايتجزأ من ثقافته السائدة .
تجاوبت القيادة الفلسطينية مع المبادرة المصرية التي كانت بطلب منها لإدراكها المسبق خطورة الأهداف الصهيونية الرامية إلى قطع الطريق على استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية وابقاء حالة الإنقسام الفلسطيني وتداعياتها وأهمها تكريس حالة الفصل الجغرافي بين قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية حيث رفضت تشكيل حكومة التوافق قبل أن تباشر مهام عملها المحددّة وفشلت في تجنيد المجتمع الدولي ضدها ، وأيضاً أخفقت في كسر العزلة الدولية حول مسؤوليتها المباشرة عن إفشال عملية المفاوضات وتهرّبها من استحقاقاتها فضلاً عن الأزمة الداخلية الخانقة ، لعلّ من نافلة القول أن حكومة الإحتلال قبلت المبادرة المصرية بداية العدوان لعلمها أن هذه الورقة لا تحظى بإجماع فلسطيني وسيتم رفضها وهو ماحصل بالفعل حيث أكد رئيس حكومتها أن قبوله للمبادرة المصرية كان تكتيكياً لإظهار الجانب الفلسطيني أمام المجتمع الدولي بأنه هو من بدأ العدوان ، لكن الأيام اللاحقة أثبتت بما لايدع مجالاًً للشك فشل العدو باللعب على وتر شق وحدة الوفد الفلسطيني وإثارة النعرات الفصائلية والتلاعب بالألفاظ واغراق كافة بنود الإتفاق بالتفاصيل وحين اقتربت لحظة التوقيع الذي تم تجزئته وتعديله مرات عديدة وقبول الوفد الفلسطيني الموحّد لصيغة الحد الأدنى ، صدرت الأوامر للوفد الصهيوني بالإنسحاب تبين فيما بعد أن استخبارات قوات الإحتلال لديها صيد ثمين سيقلب المعادلة ويفرض شروط إعلان الإنتصار التي يريدها ، سرعان ماخاب فألة ليضيف جريمة اغتيال طفل وزوجة قائد كتائب القسام إلى سجل جرائمه النكراء ، ومع هذا كله يدرك العدو أن المقاتل والشعب الفلسطيني دفع وسيدفع أغلى مايملك في سبيل حريته ونيل استقلاله وستبقى لعنة غزة تطارد هؤلاء المجرمون حتى يحين أوان اليوم المحتوم وهم في قفص العدالة طال الزمن أم قصر.
يبقى الحذر واجب الجميع من المحاولات الخبيثة التي تصور العدوان على الشعب الفلسطيني بأنه استهداف لفصيل بعينه كما يتعين دحض نشر ثقافة الإنقسام من خلال مفردات قد يغيب القصد من وراءها عن الكثيرين حين يتم وصف الشعب الفلسطيني بشعب غزة أو شعب الضفة وربما الداخل والخارج ، وحدة الشعب الفلسطيني وقواه ووحدة الأداء وبناء استراتيجية وطنية قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية هي مسؤولية تمليها أمانة العهد والوفاء لدماء الأطفال والشهداء الذين سال دمهم في فلسطين بكونها أقصر الطرق نحو الإنتصار الحتمي .
بقلم جمال ايوب