تأكلنا أم نأكلها …!
بحسب ما اكتشف من آثار ودلائل حتى الآن يتبين لنا ظهورها قبل آلالاف السنين في أرض المحروسة ثم في أرض الصين، وبقائها بلا قوانين ناظمة حتى بعد ظهورها في روما ومن بعدها إنجلترا في العصور الوسطى، والتي استطاعت تنظيم القوانين الخاصة بها وإنشاء أول إتحاد للعبة كرة القدم في العالم في عام 1863م، لتتشكل بعده الاتحادات في بلدان أخرى ويتم إنشاء الإتحاد الدولي لكرة القدم، وبذلك يكون الانجليز أول من اخترع لعبة كرة القدم بشكلها الحالي للتمييز بينها وبين لعبة الرجبي، لنجد أن اللعبة التي يستعد العالم لمتابعة أكبر بطولاتها العالمية بعد حوالي الشهر من الآن قد تم ابتكارها من أجل تنمية عقول وأجساد البشر حول العالم، وتعزيز أواصر المحبة والتفاهم والتنافس فيما بينهم من خلال تنمية مهاراتهم العقلية والفكرية والجسمانية بممارسة هذه الرياضة.
ما دفعنا لكتابة هذه السطور ليست بطولة كأس العالم القادمة في البرازيل، برغم أننا من متابعي كرة القدم منذ أكثر من 20 عاماً وممن يستمتعون بكافة تفاصيلها، ولهذا بقينا برغم مرور السنين حريصين على متابعتها ولو بشكل متقطع بين فترة وأخرى، وقد كنا كغيرنا من أبناء الوطن الذين ملأتهم مشاعر الفرح والفخر بمنتخبنا الوطني وإنجازاته الأخيرة التي دعتنا للتفاؤل بمسيرة جديدة أكثر إشراقاً لرياضة كرة القدم الأردنية، الأمر الذي شجعنا على متابعة مباراة فريقي الفيصلي والوحدات هذا العام بحكم أنها قمة الكرة الأردنية، متوقعين أنها ستكون قمة في الروعة بحكم هذا التطور في الرياضة الأردنية، بعد سنوات من الإحجام عن متابعتها بسبب ما يملأها من السخافات والمهاترات والإساءات وشق الصف الوطني بين أبناء الشعب الواحد في معظم المرات، وبرغم كل التردد استمتعنا بمتابعة المستوى الفني المتطور في مباراة القمة الأمر الذي مسخته للأسف تلك الروح الرياضية المتردية لبعض جماهير الفريقين، بل وحتى بعض لاعبي الفريقين ممن أتقنوا فن البصق والركل والألفاظ القذرة، ويدهشنا أن نعلم أن بعضهم منتسبين لأجهزة أمنية يعلمون أن هدفها الأساسي هو الحفاظ على أمن الوطن وتماسك وحدته الوطنية ليقدموا لها ولنا أكبر إساءة بمثل هذه التصرفات !
ما يؤسفنا هو أن هذا الأمر ليس مقتصراً على الوحدات والفيصلي في بلادنا فقط، بل هو ممتد بصورة أقرب إلى طبق الأصل على طول الوطن العربي وعرضه بنسب متفاوتة، فتجده غالباً في مباريات الهلال والنصر أو الإتحاد والأهلي في السعودية، والأهلي والزمالك في مصر، والهلال والمريخ في السودان، والرجاء والوداد البيضاويان في المغرب، وبين الأنصار والنجمة في لبنان، وغيرها من القمم الكروية العربية بين فرق وحتى بعض المنتخبات والتي نجدها تزخر بالكثير من العنصرية والإساءات والشتائم وقتل الروح الرياضية بدلاً من تعزيز التنافس الشريف وترسيخ مبادئ لعبة رياضية تبقى لعبة فيها الرابح والخاسر في نهاية المطاف، ليأتيك البعض بعد كل ذلك متسائلاً بدهشة لماذا مازلنا عاجزين عن المنافسة في بطولات كأس العالم لكرة القدم برغم وصولها إلى النسخة رقم 20 حتى الآن.
وتبدو الإجابة واضحة طالما لم نتفهم الهدف الأساس من لعبة كرة القدم وبأنها ليست أكثر من لعبة رياضية تهدف إلى تنمية الفكر والجسد وتجمع إلى جانبهما المتعة والتسلية لا أكثر، وليست أداة لتدمير المجتمعات وتفتيت أواصر الوحدة والمحبة والأخوة فيها، كما حدث مؤخراً في جمهورية كينيا الافريقية مع أحد أنصار فريق ‘أرسنال’ عندما أقدم على طعن مشجع لفريق ‘ليفربول’ حتى الموت بسبب خسارة فريقه المفضل بالخمسة في الجولة 25 من الدوري الانجليزي !!
ويحدث كل هذا وأسوأ عندما تغيب المبادئ الجميلة لهذه اللعبة مثل ما شاهدناه في مباراة فريقي برشلونة وفياريال الأخيرة في الدوري الإسباني أحد أكبر الدوريات في العالم، والذي كلف فريق فياريال غرامة 16 ألف دولار أمريكي وإيقاف الفريق لأحد مشجعيه مدى الحياة، عندما قام بإلقاء موزة على لاعب الفريق الكاتالوني داني ألفيش إشارة إلى تشبيهه بالقرد، ليقوم اللاعب البرازيلي أسمر البشرة بتناولها من الأرض وأكلها قبل إكمال المباراة في إشارة منه لرفض هذه العنصرية المقيتة !
وهو الأمر الذي أثار ضجة كبرى في الأوساط الإسبانية وردود فعل مستنكرة لهذا المستوى المتدني من العنصرية الذي يظهر في إسبانيا التي تستعد للحفاظ على لقب كأس العالم لكرة القدم الشهر القادم، وفي لعبة وجدت لتعزيز أواصر المحبة والترابط بين الشعوب، لتتكرر الحادثة مرة أخرى في الدوري الإيطالي هذه المرة في مباراة أتلانتا وميلان الأخيرة، بقيام أحد مشجعي فريق أتلانتا والذي كلف تصرفه الفريق غرامة 55 ألف دولار برمي موزة أخرى على لاعب فريق ميلان الغيني كيفن كونستان الذي التقطها وعرضها على الحكم قبل إعطائها لزميله الذي ألقاها خارج الملعب.
والمشكلة هنا ليست في الموزة وإنما بما تحمله من معاني عنصرية لا أخلاقية، أو أن تتواجد مثل هذه الموزة في قلوب وعقول البعض بيننا، وهو ما نشعر به في كل مرة نرى فيها تلك التصرفات المسيئة لنا ولكل جميل بيننا في مباريات كرة قدم يفترض أنها وجدت من أجل المتعة والإفادة لنا جميعاً، الأمر الذي يدعونا أن نطلب من أصحاب مثل هذه التصرفات أن يتأملوا في مثل هذه الموزة ومعانيها، ليسألوا أنفسهم ترى هل سنسمح لمثل هذه الموزة أن تأكلنا وتعزز بذلك طعننا لأوطاننا وتدميرنا لأنفسنا ومجتمعاتنا أم نأكلها نحن ونلقي بكل ما تحمله من عنصرية ممجوجة بعيداً !