العصيان المدني بعيد عن كل مظاهر العنف والإيذاء
الإعتداء على الممتلكات العامة والخاصة هو سلوك مدمر لبنية مؤسسات الدولة ، و صمود السكان والأهالي والظروف الإقتصادية والإجتماعية والخدمية والسياسية والبيئية الصعبة والمساس بالبنى التحتية والمؤسسات والأبنية العامة والمدارس والمصانع والمعامل والبيوت ، يشكّل عاملاً حاسماً في إرهاب وإخضاع الناس ، وكذلك يشمل الإعتداءات الشخصية والإغتصاب والقتل, بما يؤسس إلى تفكيك بنية المجتمع ونسيجه .
الخيار البديل هو العصيان المدني وهو حركة إنسانية واعية تنبع من الخيارات الذاتية نحو بناء مجتمع ديمقراطي تعددي قائم على حقوق المواطنه والمشاركة والعدالة بالشكل السلمي , أحد الطرق لحركات المقاومة التي ثار بها الناس على القوانين الظالمة غير العادلة ، وهو أحد الوسائل السلمية المكفولة دستوريا والمتاحة للمواطنين من أجل المطالبة بل الحقوق المهدورة , العصيان المدني يعتبر ضمانا أخلاقيا إنسانيا وقانونيا للحريات العامة لا يخضع للسلطة القضائية ضمانا يمارسه المواطنون أنفسهم للحفاظ على حقوقهم الطبيعية ، وهذه الحقوق هي الحق في الحرية والحق في التملك والحق في الأمان والحق في مقاومة القمع ، إن العصيان المدني تقوم أنشطته على الإحتجاج والمقاومة والرفض والتحدي فلا يتقيد بقوانين النظام أو قراراته ، وإن كان أحيانا يتم عبر القوانين ومن ثم لا يستطيع النظام أن يفرض على حركة العصيان نشاطا بعينه أو يمنعها من نشاط أو يفرض عليها ميدانا بعينه .
هو نشاط شعبي يعتمد أساسا على مبدأ اللاعنف سلمي بعيد كل البعد عن كل مظاهر العنف والإيذاء ، له صور متعددة مثل أن يخرج المعارضون بشكل جماعي وفي أوقات محددة لإجبار السلطة الحاكمة على الإنصياع لمطالب المحتجين الهادئين مثل رفض الموظفين الذهاب إلى دوائر الدولة والمدارس والجامعات والمصانع والمعاهد مع إغلاق كل الأسواق والمحلات التجارية ، والأفران وسائقي السيارات العامة ومحطات الوقود ، وأن تخرج الجماهير وهم يرتدون ملابس موحدة وبكل هدوء لا شعارات ولا صراخ ولا نداءات معادية ، ولكن عصيان بهدوء كالجلوس في الشوارع الرئيسية أو الميادين الكبرى والجلوس في وسطها ، ويتوجب على الممارس للعصيان المدني أن يكون هادئا مالكا لزمام نفسه حتى يتحقق هدفه ، فعندما يمسك به رجال الشرطة والأمن يبتسم في وجوههم حتى لو أهانوه وشتموه ، وقد إستخدم غاندي العصيان المدني في الهند من أجل العدالة الإجتماعية والإستقلال عن الإمبراطورية البريطانية ، ولقد أوضح غاندي بشكل لا يقبل الشك أن العصيان يقوض من سلطة الدولة , وأستخدم في جنوب إفريقيا تمثل العصيان المدني في مقاومة التمييز والفصل العنصري والتي أنهت الفصل العنصري , وأستخدم العصيان المدني في أمريكا عام 1955 ضد التمييز العنصري بين السود والبيض .. ولقد استخدم الثوار العصيان المدني فيما عرف بالثورات الملونة والتي أدت إلى خلع سلوفيدان ميلوسوفتش في صربيا ، والثورة الوردية في جورجيا التي أدت إلى خلع إدوارد شفرنادزة ، والثورة البنفسجية في تشيكو سولفاكيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا .
يجمع الكثير من الباحثين على أن أكبر الأمثلة لتطبيقات العصيان المدني في العالم العربي وأوسعها نطاقا تمثلت في ثورة 1919 التي إبتدأت في اليوم التالي لإعتقال الزعيم الوطني سعد زغلول والوفد المرافق له بتاريخ 9/3/1919 حيث أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات ، وفي غضون يومين إمتد نطاق الإحتجاجات ليشمل جميع الطلبة وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد إندلعت في جميع أنحاء مصر حيث قام عمال السكك الحديدية وأضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك وعمال المطابع والورش .
بالرغم من أن الكثير من مؤرخي التاريخ يفضلون مصطلح الثورة بدلا من العصيان نظرا لوقوع الشهداء من الشعب , وبالمقابل فإن الكثير من المؤرخين رفضوا إعتبار الإضراب العام في فلسطين بأنه أحد الأمثلة الحية للعصيان المدني حيث تم الإعلان بتاريخ 17/4/1936 عن الإضراب العام في فلسطين إحتجاجا على السياسات البريطانية الموالية للصهيونية ، وبقيت المحاصيل الزراعية في القرى الفلسطينية ، وامتنع العمال الفلسطينيون عن التوجه إلى حيفا ، وتوقف العمل في الميناء وامتنع الطلاب من التوجه إلى المدارس ، وقاموا بالمظاهرات والمسيرات وهتفوا ضد الإحتلال البريطاني ، وضد وعد بلفور وبتاريخ 8/5/1936 وتحت تزايد الضغط الشعبي دعا الحاج أمين الحسيني إلى عقد مؤتمر قومي لكل اللجان القومية ، وطالب هذا المؤتمر تحت شعار لا ضرائب بلا تمثيل بالعصيان المدني وتنظيم إضراب عام إحتجاجا على السياسات البريطانية الظالمة اتجاه الشعب الفلسطيني والممالئة للصهيونية ، وقد إستمر الإضراب العام لمدة ستة أشهر ليصبح بذلك أطول إضراب ضد الإستعمار الغربي عرفته حركات التحرر الوطنية مما أدى إلى إيقاف النشاط التجاري ، والإقتصادي في فلسطيني وقفا تاما ، ويعتبر هذا العصيان المدني الفلسطيني حجر الزاوية لثورة فلسطينية عارمة إمتدت حتى صيف 1939 إستشهد خلالها 1200 شهيد فلسطيني .
العصيان المدني أنه عمل عام سلمي يتم بوعي كامل ولكنه عمل سياسي ويطبق في أغلب الأحوال لإحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة ، وبإتخاذ هذا المسلك يخاطب العصيان المدني حس العدالة لدى غالبية المجتمع ، ويصرح وفقا لرأي وتفكير ناضج بأن مبادىء التعاون الإجتماعي بين أفراد يتمتعون بالحرية والمساواة في الحقوق ، أن تبرر حالة العصيان المدني في نظام غير عادل لا يتبع رأي الأغلبية ، لذلك تستفيد حركات العصيان المدني من الظلم والتسلط وتوظفها في عملية التحريض وكلما إزداد الظلم كلما كان ذلك في صالح حركات العصيان ، وكلما إزدادت الجرائم المعلنة للنظام كلما كان ذلك سبيلاً إلى إجتذاب الجماهير لذلك تستفيد حركات العصيان من أخطاء النظام ، وتوظفها بشكل دقيق لجذب المزيد من الأحرار لتسقط شرعيته .
بقلم الكاتب جمال أيوب.