ثلاث تجارب ودلالة واحدة
ثلاث وقائع، متفاوتة في حجمها ووزنها، لكنها مُحمّلة بالدلالة ذاتها:
الأولى، قدرة إخوان مصر على الاستمرار في تسيير المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، بصرف النظر عن حجمها و”جماهيريتها”، برغم مرور ثمانية أشهر على سقوط حكمهم، وبرغم آلاف القتلى والمصابين والمطاردين والمعتقلين، دع عنك أشد الحملات السياسية والإعلامية هولاً، التي تتعرض لها منذ تأسيسها قبل أزيد من ثمانية عقود، ومن قبل حلف إقليمي طويل وعريض، وليس من قبل السلطات المصرية الحاكمة وحدها.
الثانية: النجاحات التي حققتها الجماعة في الأردن، بعد أشهر من الانكفاء، وواحدة من أوسع حملات “الشيطنة” التي تعرضت لها إخوان الأردن من قبل أوساط سياسية وإعلامية، لم تترك فيها لا شاردة أو واردة، يمكن توظيفها ضد الجماعة، توجها ورموزاً وعلاقات وتحالفات.
الثالثة: النجاح المدوي الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية التركية، والذي فاق كل التوقعات والاستطلاعات، إذ بدل أن تهبط شعبيته بعشر نقاط على الأقل قياساً بآخر انتخابات خاضها كما رجحت التقديرات والدراسات، سجل الحزب تقدما بعشر نقاط عن آخر انتخابات محلية خاضها، برغم مسلسل الفشل في السياسة الخارجية، الذي جاء متزامناً مع مسلسل الفشل في السياسة الداخلية، وما رافقه من فضائح بالفساد وحروب ضد القضاء والعدل والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واعتقالات بالجملة والمفرق، بالأخص بعد أحداث “تكسيم” “جيزي”.
ما الذي تعنيه هذه الشواهد في الواقع العربي والإقليمي المُعاش؟
تعني أولاً، وببساطة، أن النظر إلى هذه الجماعة من الزاوية الأمنية الضيقة: محاربة الإرهاب، هي نظرة قاصرة بالضرورة، سترتد قريباً على أصحابها، عندما يستيقظون ذات صباح، فيجدون أن كل محاولاتهم لاستئصال الجماعة وإلغائها، قد باءت بالفشل، وأنه كان عليهم توسيع “فتحة المناظر” الذي يتطلعون من خلاله إليها، باعتماد مقاربات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في التعامل معها، ورفض “الخيار الأمني” المفضي حتماً للكارثة.
وتعني ثانياً، أن موجة الإسلام السياسي التي صعدت عالياً وبقوة، خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الفائتة، وبلغت ذروتها في وصول الإخوان للحكم في مصر وعدد من الدول العربية، قد تواجه انحساراً وتراجعات تكتيكية، أو حتى استراتيجية، بيد أن جذورها العميقة الضاربة في عمق البيئة الثقافية والاجتماعية العربية والإقليمية المحافظة، ستجعل من السابق لأوانه، إطلاق صيحات النصر أو الإعلان عن بلوغ خط النهاية في السباق مع هذه الجماعة.
وتعني ثالثاً، أن صعود الجماعة الذي ما كان ممكنا لولا تراجع وانهيار بقية تيارات السياسة والفكر العربية والإقليمية، من قومية ويسارية وليبرالية، مرشح للاستمرار، أو على الأقل، لحفظ مكتسباته، جميعها أو كثير منها، ودائماً للأسباب ذاتها … فلولا المؤسسة العسكرية في مصر، لما نجحت ملايين المتظاهرين غير المنظمين في إسقاط حكم الإخوان … ولولا انتعاش الولاءات والهويات الجهوية والفرعية، لما أمكن صد قوائم الإخوان وحال بينهم وبين أغلبيات مطلقة في نقابة المحامين وطلبة الجامعة الأردنية … ولولا ضعف المعارضة التركية وفشلها في توفير بدائل مقنعة، لما ضاعت عليها،أوضيّعت على نفسها، فرصة “اقتناص” أردوغان وحزبه، وهو في أضعف حالاته، داخلياً وخارجياً … يسألونك عن قوة الإخوان، قل اسألوا عن ضعف خصومهم وشتاتهم و”تيههم” الذي لا نهاية له.
قلنا بعيد إسقاط حكم مرسي والإخوان، أن من السابق لأوانه، إصدار بطاقة نعي للجماعة، وأن خطاب الاستئصال واللوائح السوداء للمنظمات الإرهابية ومجازر أحكام الإعدام الجماعية، غير المسبوقة في التاريخ، لن تفلح في طي صفحتهم، وجعلهم نسياً منسياً … وها هي التجارب “المتفاوتة” في الدول الثلاث، تؤكد صحة هذا التقدير، بل وتؤكده بصورة مبالغ فيها … وعلى الذين ظنوا أنهم ودعوا عصر “الإسلام السياسي” بعد الثلاثين من يونيو الفائت، أن يتهيؤوا للعيش مع هذه القوى، لسنوات وعقود قادمة، إن لم يكن من موقع السلطة أحياناً، فمن موقع المعارضة في غالب الأحيان.