رهان المثقف!!
قد تكون الهزيمة بمقياس آخر، هو التراجيديا، انتصارا مؤهلاً، لكن البشر لا يعيشون قرونا بحيث يشهدون بأنفسهم كيف يعاد الاعتبار لمن صلب أو شنق أو أحرق أو تشرد.
ورغم كل ما نتداوله من تعريفات للثقافة والمثقف نبقى خارج المدار الحقيقي لهذا التوصيف والتصنيف خصوصاً في عصر توحشت فيه الذرائعية وانعطبت البوصلة الاخلاقية وحلت الاثرة المجنونة مكان الايثار النبيل.
لهذا على المثقف اذا كان بالفعل جديرا بهذه الصفة وعضوياً بالمعنى الذي تحدث عنه غرامشي ان يتوقع الكثير من السخرية والانكار، وان يكون العقاب لا الثواب هو مكافآته، سواء سميّ سنّمار في الحكايات أو زرقاء اليمامة، والمثقف ليس حجراً كريماً أو لؤلؤة مختبئة في محارة, كما انه ليس نبتاً شيطانياً، انه من افراز ثقافة بكل حمولتها من الموروث وبكل امراضها من الراهن البرغماتي الذي تخلت فيه السرخسيات والطحالب عن صفقاتها ومقايضاتها لصالح البشر.
بعد كل هذا الاستنساخ التاريخي والاجتماعي، هزيمة المثقف هي بالتأكيد انتصار مؤهل لكن عليه ان يملك من فائض القوة الروحية والثقة بالنفس والرهان على الحقيقة كي يحتمل اللامبالاة التي تحاصره، واحيانا السخرية التي تنال منه.
انه احياناً أشبه ببائع ورد في حارة تعج باللصوص والجياع والمتسولين والاطفال الذين يشتبكون مع القطط في حاويات القمامة، لهذا عليه ألا يفاجأ اذا عاد كل يوم الى بيته وهو يحمل سلة الورد الذابل، فالورد الذي اقترن بجنائز مهيبة، ومناسبات خضراء، تعف البهائم عن مضغه لمرارته، وبالنسبة للبعض فهو لا يصلح الا للموت البطيء، فالبصل أجدى منه وكذلك الملوخية وسائر الحشائش!
ان المثقف بعكس السياسي لأنه يحترف الصراع مع المستحيل وليس مع الممكن والمتاح، لهذا لا يحصي أيامه أو شهوره بما كسب من مال أو ما ادخر منه، بل بقدر ما قرأ وجرب وادخر من معارف، وهناك قصة روسية تحسم المسألة كلها.. عن رهان بين رجل ثري ومثقف فقير، فقد اشترط الثري الأمي على المثقف ان يبقى في غرفة لا يغادرها خمسة عشر عاماً مقابل مبلغ كبير من المال، وهذا ما حدث بالفعل، فقد قضى الرجل تلك الاعوام في غرفة تغطي جدرانها الكتب، وقبل ان تنتهي الخمسة عشر عاما بخمس دقائق فقط قرر الخروج من الغرفة وهو يعرف بأنه سيخسر الرهان وقال لغريمه أمام الناس.. أنا الذي كسبت كل ما قرأت ازددت خلالها علماً بقدر ما ازددت أنت جهلاً!!