استقلالية القرار من تحرر الإرادة
القرارات التي تتخذها الدول وخصوصا المتعلق منها بقضايا إقليمية أو دولية لا شك أن متخذها يأخذ بحسبانه تبعات قراره على العلاقات مع الدول الأخرى وانعكاساتها وتأثيرها على بلده وشعبه. وعندما تتوفر لدى صاحب القرار مؤهلات إستقلالية قراره ومبررات موقفه من قضية ما، يأتي القرار مستندا على ثوابت وضوابط تراعي عدم خلق إنقسام أو خلاف بين القيادة المخولة بالقرار وبين القاعدة بما تحويه من مثقفين وأصحاب رأي ورؤى وأحزاب وحركات دينية وسياسية.
وكلما كانت القيادة حريصة على التهدئة والتوافق اللذان من خلالهما مطلوب منها سلوك نهج توافقي يضمن التفاف كافة أطياف المجتمع المدني بكل مكوناته حولها كقيادة تتخذ القرارات الصعبة بالأوقات الصعبة وهي تعلم ويعلم الآخرون أن التبعات ستكون صعبة، كلما كانت القيادة منسجمة مع القاعدة نحو تحقيق الهدف بسهولة ويسر. والإلتفاف حول القيادة لا يتحقق إلا بتحقيق أسباب التعاون بين القاعدة والقيادة. وإذا كان هناك غياب لأسباب الإلتفاف، تكون القيادة قد عرضت نفسها للخسارة وخلقت شرخا بينها وبين القاعدة وتكون قد فوتت الفرصة على نفسها بتجاهلها العمل على تحقيق الديمومة والتواصل والتناغم مع الذين تعول عليهم تقليديا بالأزمات والظروف الصعبة.
يلجأ البعض عند الوصول لحالة الإنسداد السياسي لمد اليد لجهات خارجية والإعتماد عليها وعلى وعودها وعلى تلقي ما يتبقى من فائض عن الحاجة يعطى ثمنا لرهن الموقف والقرار مع الوعد بالتدخل عند إقتراب الخطر. فيبقى هذا البعض المرهون موقفه, دائم الحرص والتعاون والإنصياع لرغبات تلك الجهات الخارجية حتى يطيل المسافة التي تفصله عن الخطر.
فالقرار بهذا الحال ليس نابعا من قناعات من اتخذه بقدر ما هو ثمن للرهن السابق ومد اليد للعون الخارجي. وهنا يأتي دور القاعدة التي ترى قرارها ليس ملكها بل هو رهن اشارة أسباب وظروف خارجية تملي على متخذ القرار أن يهرب للأمام إذ تكون الخيارات قد انعدمت. وتقع القيادة بحيص بيص وتضع نفسها بموقع لا تحسد عليه وأكثر من ذلك تصبح أمام احد خيارين أحلاهما مرّ أولهما هي به أسيرة لحد كبير لجهة خارجية وثانيهما أنها مسؤولة أمام القاعدة. والخروج من هكذا مأزق ليس بالسهل وحتى اللجوء للحلول الوسط لن يكون بالأمر الهيّن.
الإعتماد على الآخر وإنتظار محركات الإنسانية بمشاعره حتى تتفاعل وتدفع به للمساعدة وتقديم العون، ما هو إلا رهن يضعف إستقلالية القرار ويجعل حركة صاحبها مقيدة والتوجس موجود مثلما يجعل الإستجابة من الآخر بطيئة أو معدومة وهذا بدوره يقود للإمعان بالرهن والإستسلام للكثير من مطالب الآخر الذي يتعامل على أساس الحاجة التي أدت للرهن. وعندها يصبح هذا البعض الذي رهن إرادته قد أدار ظهره لقاعدته التي يفترض أن تلتف حوله بالأزمات، ويكون قد وضع نفسه موضع المستجدي، فلا شعبا كسب ولا حليف استجاب.
تتكتم حكوماتنا حول القرارات الصعبة والمؤلمة والمتعلقة بالشأن الإقليمي ولا تفصح عن التفاصيل حفاظا على حسن العلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة ولكي لا تعطي الذريعة للصحافة بالإنتقاد والهجوم عليها وعلى الدول الأخرى. بالرغم من إيماننا بارتباط قرارنا بخصوص الشأن الإقليمي بالقرار الدولي, لاننكر أن صاحب القرار وضمن الهامش المتاح له بالمناورة قد تصدى للكثير من الإغراءات والضغوط التي تحقق رغبات بعض الدول ويخرج بها الأردن مستفيدا ماليا لكن بالتأكيد سيكون الخاسر معنويا ومستقبليا. ولا ننكر أن الأردن بقيادته قد تحمل الجزء الأقل ضررا حسب المعطيات الإقليمية السياسية آخذين بالإعتبار وجود اسرائيل وأهميتها بالنسبة لأمريكا. وبالظروف الخانقة كالتي تمر بها المنطقة تقل الخيارات وتكاد تتشابه نتائجها, لكن اللجوء للخيار الأقل خطرا, هو قرار به نوع من الحكمة وتوخي درء المفاسد التي ربما بها خير أكثر من المنافع.
يُسمعنا مسؤولونا كثيرا أن مواردنا شحيحة وإمكانياتنا متواضعة، وبذلك يمهدوا للإدخال بعقولنا أن أي قرار يبدو بظاهره غير شعبي، فهو رهن الظروف الصعبة وقلة المساعدات والمنح. السؤال : إلى متى سيبقى هذا النهج الذي يبقي اقتصادنا ونوعية حياتنا رهن رضا الآخرين ومساعداتهم؟؟ هذا بالوقت الذي به يتحدى ويؤكد الخبراء والمختصون والباحثون أن بالأردن خيرات لا تقل عما هو بالبلدان المجاورة.
متى ستتحرر الإرادة وننهج نهج الإعتماد على النفس ونستغل ثرواتنا الدفينة؟؟ ومتى تتوقف النظره للأردن على أن موقفه تحصيل حاصل باتجاه ما يريده الآخرون؟؟ الإنسان أغلى ما نملك، كرامة المواطن من كرامتي، الشعب جزء من النظام، العشائر هم أهلي وربعي، لا أحد فوق القانون، الإصلاح نهج مستمر ومتواصل ……. وعير ذلك من العبارات الجميلة الكثير نسمعها بكل مناسبة ونقرأها بالصحافة الحكومية وعلى اليافطات وداخل جدران الوزارات.
لكن هذه الأقوال لا نراها تتوافق مع ما يقوم به التنفيذيون أو تتحقق على أرض الواقع بل لا تتعدى كونها أدوات يستخدموها لشراء الوقت وترويض العقول والقلوب على الإستماع والإستسلام للأقوال دون إنتظار للأفعال ودون توقع التطبيق وبذلك يسهل تمرير ما يراد تمريره وفرض واقع أشبه ما يكون بالمدرسة الإشتراكي الشيوعية والماركسية القائمة على تحييد العقل وضبابية البصر والإكتفاء بالسمع والإستماع فقط. وهو نهج ثبت انهزامه وانفلت منه صانعوه للحاق ببقية دول العالم المتعولم والمتحدث.
لو كان رهن القرار ومبادلة الموقف ومقايضته يأتي بمردود كما يعتقد ويؤمن الراهنون لرأينا الأردن قد خرج من أزمته الإقتصادية والمالية. ولو كانت هناك مصلحة استراتيجية كما يقول ويروج بعض الساسة قادة الدبلوماسية لما طلب منا أن ننوب عن غيرنا ونصنع من أنفسنا أعداء لأنفسنا ونصنع من الشقيق عدوا, ولرأينا يد العون ممدودة كما مدت لمصر بالمليارات. لكنها مليارات لا تصب بصالح الشعب بل لتقوية نظام عسكري انقلابي نصّب نفسه منقذا ومخلّصا لحماية أصحاب المال والقضاء على نظام كان باعتقادهم يشكل تهديدا لهم.
لا خلاص مما نحن به إلا باعتمادنا على أنفسنا وثرواتنا التي تنتظر الإرادة الحرة لاستخراجها, إرادة وصفي التل التي لم تكن تؤمن إلا بإرادة الأردني التي إلتف أصحابها مع قيادتهم واتخذوا موقفا صلبا حمى الوطن والنظام اللذان كان الكثير يراهن على زوالهما حتى المقربين والمتحالفين.
وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com