كاهنة الشعب
ولمّا جَنَّ الليل،تسلَّلَ النسيم الغَضُّ، يحمل الندى بين ثناياه ،وتهللت أوراق التين والعنب، لترتشف السُّقْيا من رذاذه الناعم ،وَتَفَلَّتَ النّدى من عباءة النسيم الغامرة، فتراكم على كل سطح مصقول، فَتَمَطَّى على الزجاج،والمناضد،وأكواب الشاي الفارغة، وأسطح العربات،وحبال الغسيل، حتى الوجوه اللامعة جللها الندى،وكان فيه برد يلسع السُّمَّارَ، فارتجف الوزير الأول، في مقعده،وكاد ينقلب إلى الأرض،فتلقاها بيدين واهنتين، سرعان ما انبسطتا تحته، وغاب في إغماءة سريعة،فقام جلساؤه، فجمعوه بين أيديهم، ثم حملوه،فتدلى ثم أقاموا صُلْبَهُ،وساروا به مستندا إلى أكفهم وأكتافهم، ولكنه ظل سادرا في غيبوبته، حتى في حالة الوقوف، ثم ساروا به الهوينا، حتى وضعوه على سريره،وجاؤوا بمنديل مترع برائحة نافذة، فوضعوه على أنفه، فاستيقظ وهو يتمتم.
فتكدر جلساؤه وقال أقربهم منه مودة: يا أيها الوزير،ما أصابك؟! فقد كنا نراك في بهجة، يملؤك الحبور، ،فأي سوء اعتراك؟!
قال الوزير الأول: استدعوا طبيبي لعله يعرف علتي!
فاستدعوا الطبيب، فَقَلَّبَهُ ظَهْراً لِبَطْنٍ، ومسح بيده، على جميع بدنه، والقوم يستنطقون وجه الطبيب، لعلهم يستعجلون من اختلاف قسماته، شيئا ينبئهم بحال الوزير!
ولكن ظل وجه الطبيب جامدا، حتى انتهى
ثم لما خرج من عنده، اجتمع الجلساء، على الطبيب يسألونه؛ فاستخلصه “أقواهم شكيمة” من بين أيديهم، وانتأى به ناحية، ثم وَكَزَهُ في صدره فقال : مالي رَأَيْتُكَ جامداً،لم يتحرك في قسماتك شيء، وأنت تُقَلِّبُ الوزير، فهل من خطب وجدته، فأردت إخفاءه عنا؟.
قال الطبيب: بل الوزير، لا يشكو في بدنه شيئاً،وأظنه عارِضٌ من الفكر أثَّرَ فيه، فاسألوا أهل “طب النفس”لعلكم لِعِلَّتِهِ تَعْرِفونْ.
فاستدعوا طبيب الأرواح، فجلس إلى الوزير، ثم خرج من عنده كما خرج الأول،ثم قال: لست أرى فيه من بأس فلعله عارض البرد .
فاجتمعوا وقالوا : قد جئنا إليه بأهل الطب، من الصناعتين، فلم يُفْلِحا في شفائه، فماذا أنتم فاعلون.
قال “أكثرهم رُعونة” : عليكم (بكاهنة الشعب)فلا أظن أحداً يعرف عِلَّتَهُ غيرها، فحملوه إلى الكاهنة، ولما دخلوا عليها، أكثرو ا من اللَّغَطِ يتسابقون، كُلُّهُمْ يريد أن يخبرها بعلة الوزير ،فأشارت إليهم، أن اصمتوا جميعا،ثم جلست إلى “وعاء فيه رمل” فقبضت منه قَبْضَةً ثم جعلتها في يد الوزير، ثم أمرته أن ينثرها فوق وعاء الرَّمْلِ، ثم قالت وهي تَمُدُّ القول وتطيل:يا أيها الوزير العليل، قد كنت في سَمَرْ،تُطارِحُ الفِكَرْ، فتذهب الفِكَرْ، وترجع الفِكَرْ، العير والنفير، والنفط والتسعير،والقمح والشعير،والدعم والتحرير،أتمسك اللصوص،أم تترك اللصوص،هنا على الخصوص، ترى خُطوطاً سُودْ، السجن والقيود، أو عزلك الموعود.
لذا فقد قاربتْ،فَكََّرْتَ أو قَدَّرْتْ، فقلت ثم قلت،وبعدها أقسمت،بأن ما أضَفْتْ،ضَريبَةً أو زِدْتْ،فإنما مدارها، وحَرُّها ونارُها،ليست على الفقير.
ثم تَابَعَتِ القول وتوجهت إلى رفقائه:
وزيركم قد تاه،من شر ما رآه، أيرفع الأسعار،أم يترك الأسعار،أراه في التباس، يخشى نفور الناس،لكنه الكرسيْ،لا يقبل العَيِيْ.
قال الوزير: فما ترين من حالي في قابل أيامي
قالت:يا أيها الوزير لقد أنفقت ثمانين في المئة من ولا يتك،وأراك قد استنفذت أيامك،وأنفقت ما ادخرته من عزمك،وإني لأظنك أيها الوزير معزولا!
قال الوزير الأول:قبحك الله من كاهنة،فلقد جئتك مهموما، فَزِدْتِ همي وكاثَرْتِ غمي.
فقالت:ياأيها الوزيرالأول،قد أردت أن ترقع خرقا، فخرقت غيره لترقعه، حتى اتسعت عليك الخروق،فلا أرى أيامك بعد هذا اليوم رتقا.
ثم قام الوزير الأول ومضى لشأنه، وظلت كاهنة الشعب تعبث بالرمل.