عدنا لنكمل الحكاية
عُدنا لنكمل الحكاية
د. مراد الكلالدة
أسبوع ما أشوفك ولا تتصل، إن شاء الله المانع خيراً سألني جبر الفِطن. من وين بدك يجيء الخير ونحن في المِحماس مثل القليّة … بتعرف القليّة يا جبر؟ ما حصليش الشرف، شو القليّة ؟ يا سيدي أيام زمان كانت مُتع الحياة قليلة وكان القمح سيد الموقف، فلا حياة بدون قمح ولا سهرة بدون قليّة لزوم النقرشة، الحكي هاذ كان بالطفيلة وكان الناس يَقلون القمح بالمِحماس، أكيد بتعرفه، صحن معدني بمقبض طويل ويستعمل لتحميص القهوة أيضاً. أتركنا من القليّة ودعني اُكمل لك حكاية سيدي الفِطن. شو سيدي ما سيدي، سألت جبر، فقال (سيدي) عندنا مثل (جدّي) عندكم.
يا حفيظ السلامة، الحكاية بدأت في الحمّام … نعم في الحمّام التركي بحي القصبة بنابلس. فقد كانت مُلكية الحمّامات في المدينة تعود للعائلات مثل حَمّام دار طوقان، ولم يرق هذا للسلطان العثماني سليم الأول فأمر بتأميم جميع الحمّامات الخاصة وفتحها لعامة الناس وسُمي حمّام طوقان بعدها بحمّام الشِفاء.
كان سيدي أبو العبد شغّال بخان التجّار، وجاء يوم الخميس، وانت عارف ما معنى يوم الخميس، وأم العبد حَميانة مثل القلية تاعتك، فتحت نفسي على الخميس يا جبر، أسكت عاد تأكملّك … صاح فيّ جبر. فقصد سيدي الحمّام بعد صلاة العصر، وعندما وصل العتبة رفع التشبر حتى ما يدعثر. رمى السلام وقصد المَشلح، لف الفوطة على أسفله ورمى جسمة على بلاط النار. كان الحمّام مُتعة تأخذ وقتها وتنتهي بالإستراحة وشرب الشاي بالنعناع وسحب نفس أرجيلة.
دخل الساحة رجل طويل غير مألوف للزبائن وكان قد إنتهى من المَقلى، وجلس على البسطة في ساحة الحمّام التي تعتليها القبة ذات المناور السماوية وجاء مقعده قريباً من سيدي أبو العبد. الرجل كان مَهموماً شارد الذهن، فبادر سِيدي وخاطب الرجل سائلاً عن الحال والأحوال واستفسر منه عن غَرَضِه من زيارة المدينة، فتنهد الرجل وقال: ما دفعته، وقع لحاله وظل يرددها حتى سال الدمع من عينيه. ضَرب جدي كفاً بكف واستعاذ بالله وإنحنى لجهه الرجل وسأله، قل لي ما حكايتك بالتفصيل. إرتبك الغريب وهمّ بالوقوف، مَسك أبو العبد الغريب من الفوطة … إنفكت وسارع الغريب لربطها واستعوذ من الشيطان، لأن النوابلسة إلهم عالهشغلة، أو لأن إنتظار الخميس جعل سيدي أبو العبد يتحركش بالطير الطاير.
جلس الغريب، وتنهد وقال: أنا من عكربا وحكايتي أني من يومين قتلت قريبي بالخطأ عند نبع الماء، إختلفنا على دور السقاية فتشاجرنا فوقع، وحسبي أنه مات. وقد جئت إلى هنا هارباً وللتفكير والسؤال لعلني أجد من يساعدني في محنتي هذه فأنا غريب في هذه الديار وعليّ ثأر وأنا داخل على الله ثم عليك. حكّ سيدي أبو العبد إذنه اليمنى وتفكرّ وقال: صل على النبي، قال الغريب: اللهم صل على سيدنا محمد، قاله سيدي، زيد النبي صلاه، قال الغريب وعليه أطيب الصلاة والتسليم.
أمسك سيدي بالعقرباوي، وهالمرة من يده وليس من الفوطه، وقال له: عليك أن تثق بي لأساعدك، فهل أنت مستعد أن تفعل ما أقوله لك بدون نقاش، أجاب الغريب: لك من الثقة وعليّ الطاعة. لعاد، قوم إلبس وتعال معي، فقام الغريب بدون تردد وإلتقيا عند باب الحمّام. لوين مآخذني، سأل العقرباوي، ألم نتفق على الطاعة وقلة السؤال إمشي وما عليك.
عاد سيدي بالعقرباوي إلى خان التجار ودخل سوق الأقمشة وسلّم على أبو الفهد الشخشير وجلسا على كراسي القشّ وقال سيدي: يا أبو الفهد، صل على النبي، رد أبو الفهد: اللهم صل على سيدنا محمد، قاله سيدي، زيد النبي صلاه، رد أبو الفهد، وعليه أطيب الصلاة والتسليم. كيف الأشغال هالأيام يا أبو الفهد، مستورة والحمد لله رد الشخشير. بلائيش عندك ئماش كفن لهلرجّال، صل على النبي يا أبو العبد، ولا تفاول على الزلمة ما هيتو متل الحصان بلا زَغرة. أقصد كفن لشخص بمثل حجم هالرّجال، عفواَ منك أخي أبو العبد، هيك عدلتها: طبعا موجود، وعظم الله أجركم مين ماتلكو؟ قريب، أجاب الغريب من عقربا. استعجل الشخشير قص القماش ولفه وحاسب سيدي عليه عصمليتين وسلمّ ومَسك يد الغريب ودخل فيه إلى دكان المنجّد، وأتفق معه على عمل لحاف بحجم الغريب وما هي إلا ساعة حتى إنتهى فحاسبه وخرج به إلى عند الصباغّ وإشترى زجاجة صبغة حمراء بلون الدم وخرج ليستأجر حنتور ليومين ويضع ما إشترى عليه وطلب من العقرباوي أن ينام في الحنتور لحين الصباح وكان قد غطاه بالقش، وتسّهل هو إلى أم الفهد، ومع فجر يوم الجمعة، نزل وتحرك بالحنتور ومن فيه وإنطلق مشرّق.
مع صلاة الظهر كان الحنتور واقف أمام مغارة أبو عبوة في منطقة النزل بعقربا وطلب سيدي أبو العبد من العقرباوي الإختباء فيها حتى يعود اليه، وتحرك بالحنتور الى البلدة وكان مع صلاة الظهر أمام الجامع، وكان اللحاف المملوء بالحجارة والمصبوغ من أعلاه بلون الدم مُسجى على الحنتور، وما أن شاهده الناس حتى تجمعوا بإرتياب لأن القرية بتعرف بعضها، وهذا أبو الحنتور غريب ويحمل ما هو أغرب فطالبوا بحضور الشاويش.
إكرام الميت دفنه يا جماعة، صاح أحدهم، وأيده كثيرون واتفقوا على أن يُصلى عليه لحين حضور الشاويش، وهكذا تم. وما أن حضر الشاويش وتحفظ على الجثة ليبدأ تحقيقاً مع سيدي أبو العبد الذي أكد بأنه مرّار طريق وأنه وجد الكفن وما فيه عند نبع الماء، فحمله على الحنتور وقدم فيه إلى المسجد لأن إكرام الميت دفنه، فطلب الشاويش العودة الى هناك للتحقيق بالموضوع. في الطريق تسائل سيدي أبو العبد فيما إذا توفي إياً من العقاربة بحادثة في الأيام القليلة الماضية، فأجاب الشاويش والحضور بالنفي. وعندها شد الحبل الأيمن للبغل ليغير طريقه بإتجاه مغارة أبو عبوة، وما أن وصل حتى اخرج دخيله العقرباوي وسط إستغراب وترحيب من أهله وناسه الذين إفتقدوه لأيام وكان من بينهم قريبه حياً يُرزق. تجمع العقاربة حول سيدي أبو العبد وطبطبوا على كتفه ونادوه بالفطن.
صدقت أخي جبر، فالدخالة نهج حميد عُرفت به العرب، وإغاثة الملهوف مروءة نعتز بها، فنحن جميعا في المِحماس مثل القلية.