طفايلة عمّان
طفايلة عمّان
د. مراد الكلالدة
كانت لفتة جميلة من الأستاذ أحمد المحيسن الذي دعاني مع مجموعة من الطفايلة إلى منزله بعمّان لتناول القطايف في أمسية كان محورها الطفيلة التي زاد تعلقنا بها كلما إبتعدنا عنها جسدياً ولكن ما باليد حيلة لأن الإنسان مكان ما يُرزق يَلزق. لقد قَدم أهلنا من الطفيلة ومن غيرها من مناطق الأردن إلى العاصمة في الأربعينات من القرن المنصرم فأصبح في عمّان حي للطفايلة وقَدم آخرون وصار هناك حي للمعانية وشارع للشركس ومخيمات للفلسطينيين.
ويُعرف الإستيطان البشري في بقعة جغرافية معينة بالتحضر (زيادة عدد سُكان المدن) بما يفوق بشكل كبير معدلات النمو الطبيعي للسكان في الدولة وهو بحدود 3% فأصبحنا نلاحظ بأن سكان العواصم مثلاً يزداد بنسب أكبر بكثير من باقي المناطق وصلت في الرياض مثلاً إلى حوالي 9%.
إن حركة السُكان غير المنظمة هذه بين مناطق الدولة يتسبب فيما يُعرف بالإختلال الديمغرافي وهذا واضح جداً عندنا في الأردن حيث أصبحت عمّان وضواحيها تستضيف حوالي نصف سُكان المملكة ولهذا الأمر تبِعات ضارة مثل زيادة الإزدحام المروري بما يُصاحب ذلك من تلوث الهواء وإزدياد الضغط على الموارد المائية وإستنزاف الأحواض غير المتجددة مما إستدعى الحكومة لجر مياه الشرب من حوض الديسي من أقصى جنوب البلاد إلى شمالها. كما أن لهذا التمركز في السكان أثر واضح على إرتفاع معدلات الجريمة في المدن الكبرى والخوف من تندني معدلات السكان في المناطق الحدودية بما يضر بالأمن الوطني، والأهم من هذا كله هو تخلف المناطق الأخرى عن مواكبة نمو العاصمة السريع في جميع المجالات تقريباً وأخطرها الشعور بالغبن والإهمال.
إن إبتعاد السكان عن مكان تواجد الثروات الطبيعية وعن المناطق الزراعية يزيد من المسافة بين مكان السكن ومكان العمل وهي معادلة غاية في الأهمية قد يتسبب إختلالها بتشوهات حقيقية في النسيج العمراني وبالتالي الاقتصادي للمملكة. وهذا الأمر لا يمكن السيطرة عليه إلا من خلال التخطيط المركزي للدولة فيما يعرف بالإستراتيجية العمرانية التي تدرس عدة بدائل للنمو العمراني قد يرتكز الأول منها على تحسين الطاقة الإستيعابية للمدن القائمة ويمكن أن يكون البديل الثاني الإنتشار العمراني من خلال إنشاء مدن جديدة أو أن يتمحور بديل ثالث حول فكرة الإنتشار الإقليمي عن طريق تدعيم مراكز نمو (أربد، عمّان، الكرك، الطفيلة، معان، العقبة) وخلق محاور تنمية بين هذه المراكز.
إن مثل هذه الإستراتيجية العمرانية تحدد إتجاهات التنمية وتعزز الإستيطان البشري في المناطق المختلفة بحيث يتم التنسيق بين جميع الفعاليات الاقتصادية وما تحتاجه من بنية تحتية وفقاً للخطة وبما ينسجم مع الخصائص الطبيعية والمناخية لكل إقليم، ولدينا منها ثلاثة هي الأغوار والمرتفعات الجبلية والأراضي الصحراوية. وقد يقول قائل بأن الخطط الإستراتيجية هو نمط مُحافظ يقلل من المرونة في التطبيق ولا سيما في ظل منطقة تعيش حالة عدم إستقرار سياسي، والجواب على ذلك بأن البديل عن الخطة الإستراتيجية هو العشوائية والإمتثال للظروف الخارجية والإنقياد وراء متطلبات السوق الإستهلاكي مثل المطالبة بالسماح بزيادة عدد طوابق الأبنية في عمّان وتقليل النسبة المئوية لإستيعاب الطلب المتزايد على المساكن والذي سيزيد من الإختلال الديموغرافي سابق الذكر. وقد تنصاع الحكومات للوبيات الضغط هذه تحت مسمى تشجيع الإستثمار ولكنها بذلك تكون تعمل ضد المناطق الأخرى فيما يشبه التدمير. وقد لاحظنا ذلك في أوج تألق فريق الليبرالية الجديدة حيث تم إطلاق يد أصحاب هذه الأفكار بالتخطيط لعمّان كأنها مدينة كبرى Metropolitan City وتم إعداد مخططات هيكلية لتعزيز هذا التشوه التنموي، والمصيبة بأن أشكال المخططات الملونة قد أعجبت العديد من وزراء البلديات وطالبوا بتعميم التجربة (المصيبة) على البلديات الكبرى.
إن الإستراتيجية العمرانية هي الحاضنة لجميع الإستراتيجيات الأخرى كالنقل والطاقة والإتصالات والتعليم والسياحة لأن الأرض وما عليها من كائنات حية وما فيها من موارد تشكل النطاق العمراني للتنمية، والبديل عن ذلك هو التخبط الممارس حالياً في الأردن فهناك البلديات وهيئة للمناطق التنموية والتي تعمل كل منها بمعزل عن الآخر ويمثل الوزارات الحكومية مديريات كالأشغال والصحة والسياحة في ظل إطار تشريعي متشعب. وهناك مؤسسة للمدن الصناعية والتي تم تحويلها الى شركة تعمل على أسس تجارية بعد أن كانت رافعة تنموية أحدثت في يوم من الأيام تنمية حقيقية في سحاب وأربد والكرك. كما أن هناك مناطق خاصة كالعقبة يسرح ويمرح فيها الإنفلات من الإرتباط بالمركز وبما يحرم الدولة من العوائد المالية التي كانت ترفد الخزينة بالمال يوماً ما لتصبح العقبة مرتع خصب للمضاربة والتربح السهل بعيداً عن حضن المملكةeconomy off-shoreونافذتها إلى العالم.
لقد أردت من السرد السابق بيان الأسباب التخطيطية التي خلقت تشوهاً إجتماعياً فأصبحنا نحن الطفايلة في عمّان نبحث عن الحلول لمساعدة بلدتنا الأصلية فهذا يقترح الإستمرار بالحراك السلمي للفت إنتباه الحكومات الى المناطق المهمشة، وآخر يدعوا للضغط لزيادة عدد الطفايلة في الوظائف العليا، بينما إقترح ثالث وجوب إستقالة نواب الطفيلة الخمسة من المجلس لقرع الجرس ولفت إنتباه صاحب القرار. ومع الإحترام لجميع الآراء الأخرى المنطقية التي طرحت، فإنها لن تكون حلاً في يوم من الأيام لأن مشاكل المناطق المهمشة ومنها الطفيلة، هي قضية تخطيطية يجب معالجتها ضمن إستراتيجية عمرانية شاملة على غرار تلك التي وضعتها المملكة العربية السعودية في العام 2001 والتي أعمل حالياً على تحديثها، حيث يصار الى مراقبة نسب النمو السكاني في المناطق وبيان إنسجام الخطط القطاعية مع الأهداف التنموية للدولة.
وقد يكون فاتني أن أذكر بأن بعض الأنقياء كالصحافي جهاد المحيسن قد تسائلوا عن السبب في عدم شمول الطفيلة بمشاريع المنحة الخليجية، ولهم أقول بأن هناك في الدولة من لا يؤمن بهذه الآلية التي فُرضت على الحكومة الأردنية وأنهم يماطلون ويسوفون حتى يملّ الخلايجة ويسمحوا بإطلاق يد وزارة التخطيط في تسييل الفلوس إلى القنوات المُعتادة ولهم في ذلك خبرة كبرنامج التحول الاقتصادي ثم تدخل الملفات في ماكينة الخرط حتى لا يقتفي أثرها ديوان المحاسبة أو هيئة مكافحة الفساد أو حتى قانون الكسب غير المشروع المُنتظر.
وقد اتفق مع ما إنتهى إليه النائب محمد السعودي من أن الدور السياسي للأردن يتقدم على الدور التنموي مما يجعل من تنمية المناطق غير ذات أولوية بالنسبة للحكومات بما يزيد من صعوبة ضبط الشارع المنادي بالإصلاح لتحقيق التنمية المحلية لا سيما في محيط هائج كالشرق الأوسط الذي يراد له أن يكون جديداً في جغرافيته، معاصراً في إستهلاكهه وقديماً في عصبويته.