الثورات السيامية
الثورات السيامية
للدكتور مراد الكلالدة
يظن البعض بأن الولايات المتحدة وحلفائها قد أخطئوا بإستبدال العلمانين شاه إيران وصدام حسين باتباع اللطم والعتبات المقدسة ولكني أجزم بأن هذه السياسة كانت بديلاً مختاراً بعناية من قبل أفضل مراكز الدراسات العالمية والتي توصلت الى الخلطة السحرية في خلق ثورات سيامية مكبلة. وللتذكير، يُعرف التوأم السيامي بعدم إكتمال إنفصال التوأم المتكون من بويضة واحدة مخصّبة ليولد التوأم ملتصقاً في مناطق مختلفة مثل الرأس أو الصدر أو الأطراف، ولذلك أسباب عديدة أغلبها تشوهات جينية عند أحد الأبوين أو كلاهما وقد يكون ناجماً عن عوامل بيئية أو غذائية لا مجال للخوض فيها في هذا المجال.
تعيش منطقتنا تغيرات هيكلية في البنية الأساسية للإنسان العربي جعلت الناس يختلفون في المواقف لدرجة الصدام المسلح فما السر في ذلك يا ترى؟ وللإجابة على هذا السؤال فلا بد من العودة الى الحرب الباردة حيث سهّل الإنقسام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية تشكل محورين أساسيين الأول رأسمالي غربي والثاني إشتراكي شرقي حيث إشترك أتباع المحورين بالعلمانية وإختلفوا على ملكية وسائل الإنتاج، لهذا إقتضى الأمر تفكيك المعسكر الشرقي لكي لا يلتقي الشغيلة في الطرفين في منتصف الطريق بتحرير بعض القيود على الملكية الخاصة في الجانب الشرقي وفي تحقيق مكاسب التنظيمات العمالية والنقابات بالغرب. لقد نجح الطرفان في التوصل الى تفاهمات سرّعت من إنهيار المعسكر الشرقي مثل علب الكرتون وبقينا نحن المنقسمين بين إعداء الأمس وأصدقاء اليوم مذهولين من هول الجلازنوست (الشفافية) السوفيتية التي أفضت الى حل حلف وارسو الشرقي وبقاء حلف الناتو العسكري الغربي.
بعد الإنتهاء من ترتيب البيت الأوروبي، تفرغ حلف الناتو إلى منطقة الشرق الأوسط حيث حاول الغرب الولوج الى تلافيف العقل العربي بالسؤال عما يجمّعه وما الذي يفرّقه بهدف السيطرة المكانية على الثروات، فوجد حسبما أعتقد، بأن القيمة اللبية Core Value لدينا هي العروبة التي تستند إلى العقيدة والعروبة جامعة بين المسلمين والمسيحيين والعقيدة مرتع خصب للخلاف والفرقة. ولتنفيذ سياريو مشابهه لما حدث مع الخميني فمن المفيد تذكر تسليط فرنسا والغرب الضوء على زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي المقيم في فرنسا والتي أنتهت بالإطاحة بالعلماني زين العابدين بن علي لإفساح المجال لتكرار التجربة الإيرانية مع بعض التعديل الجيني الذي يسمح بولادة توأم مجتمعي سيامي يصعب فصله، الأول أصولي ديني والثاني علماني تحرري سيعملان على إعاقة حركة الاخر إلى حين.
وتكررت التجربة في مصر حيث كانت الأرضية ممهدة لسطوع نجم الإسلاميين الأكثر شطارة في اللعب على الوتر الديني كملجأ أخير للعدالة المنتظرة في السماء على حساب شريحة واسعة من الفاسدين والمفسدين من السهل بعثرتهم عند اللزوم. أما العلمانيين فلم يكن لهم وجود فكري مؤثر بإستثناء بعض من أهل الفن والمغنى الذين إعتادوا النمط المتحرر في الحياة اليومية.
نعم … لقد كانت ثورات شعبية صادقة النية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكنها ثورات مخصّبة بالمختبرات طرحت مواليد غير مكتملة النمو (سيامية) لكي تُشغل المجتمعات العربية بالصراع بين فريقين ملتصقين لا يمكن لأحدهما أن يعيش بدون الآخر ولم يحن الوقت لفصلهما بعد. أني اجتهد بالقول بأن الحالة السيامية هذه تروق للكثير من المتربصين بنا للحد من حركتنا بما يسهل مهمة السيطرة على ثرواتنا الطبيعية الضخمة. لا بل أني أفترض بأن هذه الحالة مطلوب منها أن تكبر فيغدوا الإنسان العربي معوق الجسد مشتت الفكر سهل الإنقياد.
ولنقترب أكثر من بلاد الشام لنلاحظ بأن حالة اللاسلم واللاحرب مع إسرائيل قد إستنفذت موجباتها ولم تعد تخدم الغرب المتغطرس لا بل شكلت بوادر النهضة الوطنية في كثير من الأقطار العربية مصدر قلق لحلف الناتو وزادت من ذلك بوادر إعادة تشكل معسكر شرقي مترامي الأطراف بين الصين وأمريكا اللاتينية فعاد الحلف لينشط في مجال الحرب الإستباقية للسيطرة على مناطق النفوذ بشتى الوسائل الممكنة وكان الخيار بإعتقادي هو تكرار تجربة شمال إفريقيا في سورية والتي إصطدمت بإكتشاف كميات هائلة من الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط الذي أشعل نيران المصالح الاقتصادية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا. وما الحركات الإحتجاجية التي بدأت في ساحة تقسيم بإسطنبول إلا إشارات لي ذراع تركيا لتليين مواقفها بخصوص حصتها من الغاز الطبيعي عن طريق قبرص التركيه، وهي فرصة للتخلص من الحمل الزائد من التكفيريين الذين تجمعوا من كافة أقصاع الأرض بداعي الجهاد المقدس.
أنا هنا لا أشيطن الشعوب ولا أحزابها الدينية أو العلمانية ولكني إلقي الضوء على خياراتها المحدودة في ظل تقاسم دولي لمناطق النفوذ في العالم. أما السؤال الأخير الذي يفرض نفسه هو: ما وضع الأردن في ظل التحليل السابق؟ وأوجز لأقول بأن قيادة الأردن حسمت أمرها منذ تأسيس الإمارة بالوقوف الى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وعززت هذا الإنحياز بتوقيع إتفاقية وادي عربة مع إسرائيل بما يضمن الاستقرار النسبي للأردن، على أن يبقى السيف مسلطاً على رقاب الأردنيين بإلهائهم بالركض خلف رغيف الخبز وسيكون من الصعب فرض إصلاحات حقيقية على المدى المنظور كون هذا الأمر يتطلب تغيير في الإتلاف الحاكم الذي وإن حدث وشاركت شخصيات إصلاحية في الحكم فإنها قد تطالب بإلغاء إتفاقية وادي عربة وهذا يعني بالضرورة المواجهة مع إسرائيل وهو خيار مستبعد إلى حين. أما الخيارات المتبقية أمام الحراكات الوطنية السلمية فتتمثل بممارسة المزيد من الضغوط لفرض إصلاحات حقيقية مقيدة بالدستور والقوانين النافذة، بمعنى آخر، التحرر من الفخ الذي نُصب للمعارضة لمقاطعة الانتخابات والتي أسفرت عن مجلس نيابي ضعيف في المجمل بإستثناء القلة القليلة التي تؤدي دورها قصراً كمعارضة نيابية لا تقدم ولا تؤخر عند إحتساب الأصوات.