الإعلام وحروب الطوائف والمذاهب
أتابع الإعلام السوري الرسمي على منتظم، فلا أجد فيه ذكراً للمعارضة السياسية والمسلحة أو “الجيش السوري الحر”..فقط هناك مجرمون وعصابات مسلحة ومجموعات تكفيرية (النصرة)..في المقابل، أتابع الإعلام المعادي للنظام، وبشكل خاص قناتي الجزيرة والعربية، فلا أجد ذكراً للنصرة في التغطيات الإخبارية، كل معارك سوريا يخوضها “الجيش السوري الحر”، وإحياناً يؤتى على ذكر كتائب مسلحة أخرى من باب “التورية” و”رفع العتب”.
النظام يريد (ومن مصلحته) إن يختزل المعارضة، كل المعارضة، بـ”النصرة”..وخصومه يريدون (ومن مصلحتهم) تجاهل “النصرة” وإنكار حضورها المتميز على مختلف جبهات القتال ومحاوره..لا يمكنك أن تأخذ الحقيقة من مصدر واحد فقط، وأنت بحاجة كما كتب أحد الزملاء قبل أيام، لأن تستمتع لعشر محطات إخبارية على الأقل، لكي ترسم صورة شبه مكتملة عمّا يجري على الأرض السورية.ثمة أنماط من المعلومات والصور، تُلقى في سلة مهملات هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك..الجيش السوري مثلاً، يقتل عناصر من النصرة وينشر أسماءهم وصور جثثهم..أنت لا ترى ذلك على شاشات عريقة والمفروض أنها مهنية..هؤلاء من الجيش الحر، ونشر أسمائهم أو صورهم، يمكن أن “يشوش” على أجندات القناة ومالكيها وموجهي برامجها وواضعي استراتيجياتها.في المقابل، تغيب عن شاشات وعناوين صحف النظام ووسائل إعلامه، أية معلومات ذات مغزى، عن الخسائر التي يتكبدها السوريون جراء عمليات القصف والغارات الجوية..كل ما ينشر هو صور للتخريب الذي أحدثته العصابات المسلحة، لكأن دبابات الجيش ومدافعه وطائراته، لا تلقي سوى الورود ورسائل الشوق للمواطنين الأبرياء في المناطق المستهدفة.
خلال ثماني وأربعين ساعة، أميط اللثام عن تطورين كيماويين خطرين، تجنب الإعلام المناهض للنظام، ذكرهما أو التوقف ملياً عند دلالاتهما..الأول، ضبط كيلوغرامين من غاز السارين مع خلية للقاعدة وقعت في أيدي أجهزة الأمن التركية، والثاني، كشف السلطات العراقية عن معمل لتصنيع السلاح الكيماوي وغاز السارين في العراق، بهدف استخدامه “محلياً” من جهة، وتصديره إلى دول الجوار وعواصم الغرب، من جهة ثانية..مثل هذا الكشف، يفسح في المجال أمام احتمال أن يكون الاستخدام المحدود لأسلحة كيماوية، هو من فعل بعض المعارضة، ولا يجوز الترويج لأية رواية، تسقط من يد النظام في دمشق، “وكالته الحصرية” للسلاح الكيماوي..في المقابل، سقطت هذه الأخبار “برداً وسلاماً” على إعلام النظام وحلفائه.
أمس، كانت صحيفة وورلد تريبيون تنقل عن مصادر أطلسية، تقارير عن تبدّل في “المزاج السوري العام”، 70 بالمائة من السوريين يؤيدون الأسد، و10 بالمائة يؤيدون المعارضة، و20 بالمائة ما زالوا يقبعون في المنطقة الرمادية بين قطبي الصراع..مثل هذه الأخبار لا تجدها إلا في المواقع الرسمية السورية وتلك المؤيدة للنظام، أما مواقع الخصوم ووسائل إعلامهم، فتتحاشى مجرد ذكر الخبر وتحليله أو حتى تفنيده، ففي ذلك مجازفة لا يجوز الخوض فيها.ولا تتوقف “اللا مهنية” و”اللا موضوعية” عند حدود الخبر السوري المحلي..فكل ما يدور حول سوريا ويتعلق بها، يؤخد أيضاَ بالطريقة ذاتها..من تابع الإعلام السوري والحليف خلال اليومين الفائتين، ظنّ أن “حرب شوارع” قد اندلعت في مختلف المدن التركية، وأن أردوغان بات يعد أيامه الأخيرة، وأن السبب الرئيس والحاسم وراء ما يجري في المدن التركية، إنما مردّه “تورط” أردوغان والعدالة والتنمية في أتون الأزمة السورية..في حين رأينا قنوات ومحطات إعلامية مناهضة للنظام، تشيح بوجهها عن أحداث تركيا، وتكتفي بالحدود الدنيا من التغطية للخبر التركي.
وفي الوقت الذي خصصت فيه قنوات بعينها ساعات من البث المباشر لتغطية أنباء الانقسامات العراقية، وتصريحات النجيفي المُهددة للمالكي، رأيناها تمتنع عن تغطية أنباء المصالحة التي قادها عمّار الحكيم بين المالكي والنجيفي، وإن فعلت فبصورة عرضية ومن باب رفع العتب، ببساطة لأن هذه المصالحة، لا تصب القمح صافياً في طواحين “الأجندات” و”الاستراتيجيات” المحركة لهذه الوسائل الإعلامية.
حتى البرامج المخصصة لعرض عناوين ومقالات الصحف العربية والأجنبية، باتت سقيمة للغاية..فالمقالات والمناشيتات تُختار بعناية لخدمة “الخط التحريري” للوسيلة الإعلامية..وبت أعرف ما يكتبه بعض زملائنا في الصحف الأردنية مبكراً من شاشة التلفزيون السوري، كما صرت أعرف مسبقاً، أين يمكن أن أجد مقالي، ومتى سيتم عرضه أو إعادة نشره، وعلى أي موقع أو قناة.
وفي خضم حالة الفرز و الاستقطاب، يجد أنصار النظام السوري والمدافعون عنه، سنداً لهم في عدد من القنوات والمواقع والصحف و وسائل الإعلام..كما يجد خصومه، جبهة مساندة أوسع انتشاراً وأعمق تأثيراً..أما الكتاب والمعلقون الذين يصعب توزيعم على الخنادق والمحاور المذهبية والطائفية، فقلما يجدون لهم سنداً أو ظهيراً..لقد بلغ الانقسام حد “من ليس معنا فهو ضدنا”.. ومن هم ليسوا مع النظام أو “النصرة”، من ليسوا مع “ولاية الفقية” أو “شيوخ التكفير”، ما عادوا يجدون لأنفسهم “مكاناً تحت الشمس”.
هو غيض من فيض، بعض ما نتعرض له من عمليات “تلاعب” بعقولنا وضمائرنا، تستوجب رفع منسوب اليقظة حيال كل ما يصلنا عبر الفضاء الإعلامي..فالإعلام بات جزءاً من المشكلة، بعد أن تحوّل إلى لاعب مؤثر وطرف فعّال في حروب الطوائف والمذاهب في العالم العربي.