كانت خطوط هدنة
كلما اتيحت لي زيارة القدس الشريف انتهز هذه الفرصة لأقوم بجولة موسعة في مدن وقرى ومخيمات ما غرب النهر، كيافا وحيفا وعكا والعروب وكذلك الخليل واللد وجنين والرملة والفوار وغيرها، حيث تعود بي الذاكرة الى اواسط الستينيات عندما كان الجيش العربي يرابط على ما كان يسمى بخطوط الهدنة في الضفة الغربية، تلك الخطوط التي توقف عندها القتال بين الجيوش العربية والقوات الاسرائيلية بعد الخامس عشر من آيار 1948.
كانت وحدة الضفتين قائمة وهي بالمناسبة اقدس وحدة عرفها التاريخ العربي المعاصر، اذكر ان المرحوم يوسف المبيضين كان آخر محافظ لمدينة الخليل قبل الاحتلال، في تلك الفترة حدثت معركة السموع التي قادها الشهيد الرائد محمد ضيف الله الهباهبة، ابن الشوبك البار، الذي تحدث عن شجاعته شهود العيان من أهالي بلدة السموع.
الاثار التي تركها أفراد الجيش العربي على جوانب خطوط الهدنة ما زال بعضها ماثلا الى اليوم، بالقرب من قرية صور باهر قضاء القدس يرى الناظر بقايا خنادق عسكرية حفرها نشامى الجيش وكان المواطنون يسمونها استحكامات، تلك تذكرنا ببطولات اولئك النشامى الذين سطروا بدمائهم الزكية قصصا وحكايات نبت عن شجاعة واقدام لا يمكن ان تُمحى من الذاكرة.
الطريق من القدس الى يافا قادتني الى ( واد علي) حيث وقعت معركة باب الواد الشهيرة، التي خاض غمارها ضباط وضباط صف وجنود الجيش العربي، وكان على رأسهم المرحوم حابس المجالي والمرحوم عبدالله التل، ابلى أفراد الجيش العربي بلاء حسنا في تلك المعركة، وحققوا نصرا غير عادي، حطام المصفحات والمجنزرات التي كانت تملكها القوة الاسرائيلية المهاجمة، والتي وقعت في كمين القوة الأردنية، ما زالت موضوعة على جانبي الطريق حيث وقعت المعركة، ويقوم الاسرائيليون بدهنها سنويا بدهان يمنع الصدأ كي لا يتم اهتراؤها، وذلك لتظل شاهدا على تضحيات المحاربين اليهود الأوائل الذين قضوا في تلك المعركة العتيدة، وساهموا في انشاء دولة اسرائيل.
نحن العرب اهل الأرض واهل الحق أولى بتمجيد شهداءنا الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى فلسطين مدافعين عن القدس ومدن وقرى الضفة الغربية على الرغم من تفوق الطرف الآخر في العدد والعدّة، ومن الواجب علينا أيضا أن نمجد المحاربين القدامى الذين حاربوا بكل شجاعة وشرف.
خطوط الهدنة التي تحدثنا عنها لم تعد قائمة، ما كان يطلق عليها بمنطقة الحرام اي المنطقة العازلة بين قوات العدو وقوات الجيش العربي لم يعد لها وجود، اسرائيل استولت على كل شيء، حتى غدا المشروع الوطني الفلسطيني الرامي الى اقامة دولة مستقلة على التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف، يضمحل شيئا فشيئا على ضوء الاستيطان المستمر ومصادرة الأراضي لسبب أو بدون سبب.
كبار السن من الناس الذين يقطنون بالقرب من خطوط الهدنة وعاشوا تلك الحقبة، ما زالوا يذكرون بكل فخر واعتزاز، حداء نشامى الجيش ( لا تحزني يا فلسطين.. عندك شباب تريد الموت )
كما يتناقلون قصص ذلك العسكري الملثم، الذي كان يشارك في المعارك التي كانت تنشب بين فينة وأخرى مع جنود العدو على جانبي خط الهدنة، فإذا به الملك حسين رحمه الله متخفيا ويحارب شأنه شأن أي جندي شجاع، نذر نفسه للدفاع عن الأرض والعرض والانسان.
m.shawahin@yahoo.com