0020
0020
previous arrow
next arrow

الطابون الليثي (صور)

 

 

وكالة الناس – كتب/ الدكتور. هاني الفلاحات

أنا من مواليد مطلع الستينات، نشأت وتربيت في وسط وادي موسى وفي إحدى حاراتها التي تعتبر جزء من وسط البلده حيث القرية (إلْجِي) والسوق، وفي طفولتنا لم تكن الأحياء والتجمعات في وادي موسى بعيدة كما نراها اليوم، فكانت أبعدها قريبة لدرجة ان أهلنا يرسلوننا الى جلواخ بخبر بسيط، أو لجلب حاجه ربما أقل قيمة من الجهد المبذول لجلبها، ولذلك كنا في سفر وتجوال في كل الأحياء والحارات بشكل دائم وبكل بساطه ودون أي تذمّر.

في كل الأحياء والحارات تنتشر الطوابين والتي كانت وظيفتها الأساسية هي طهي الخبز بالاضافة الى وظائف عديدة اخرى سنأتي على ذكرها، كما كانت اعمدة الدخان المنبعث من الطوابين تتصاعد من كل الارجاء وفي كل الاحياء، وتنبعث منها روائح ليست محببه للناس، ولكنها أيضاً طاردة للذباب والفسفس والبعوض وغيرها من الحشرات، مما جعل الناس اليوم وفي ظروف التأذي من هذه الحشرات يستذكرون أيام الطوابين بنوع من الحنين.

في عام 1994م كنت مندوباً مع بعثة المانية برئاسة البروفيسور مانفرد لندنر، وكانت البعثة تقوم بمسوحات حول البتراء ومن ضمنها حفرية بسيطة استكشافية لموقع خربة المعلّق، والتي تقع على طريق الطيبه وادي موسى وتحديداً بجانب بيت خالد شومان.

وفي هذا الموسم اكتشفنا “طابون” يعود للفترة الآدوميه، وكنت موظفاً حديثاً في دائرة الآثار، وثقّنا الاكتشاف وصوّرناه، وبعدها بفترة كانت البعثة السويسرية تنقب في منطقة الزنطور في البتراء، واكتشفت أيضاً “طابون” نبطي هذه المرّة، فأثارتني هذه الاكتشافات، فأنا عشت طفولتي وحتى شبابي في قرية تنتشر فيها الطوابين كأحد مرافق البيت الليثي لطهي الخبز.

كنت وما زلت مهتماً بالتراث الاجتماعي لمنطقة البتراء ومحيطها، واجرَيْت لذلك مئات المقابلات مع كبار السّن رجال ونساء، وجمعت مادة تاريخية رائعه، وعادات وتقاليد اجتماعية ربما تفسر بعضها ظواهر تاريخية او أثرية مع أن الآثاريين الذين عملوا في البتراء لم يهتموا سابقاً بهذه الموروثات، لأن أغلب الذين عملوا في البتراء لفترات طويله هم أجانب، ولم يتصوّروا أن ثمة علاقة بين ما يكتشفوه وموروث اجتماعي يمارس بنوع من القدسية أحياناً عند الناس في محيط البتراء.

بالطبع تختلف عبر التاريخ وظائف الرجال عن وظائف النساء، ولذلك في حواراتي الموّثقة مع كبار السن حاولت أن استخلص ما أمكن من معلومات حول هذه الخصوصية، مع أن هنالك اعمال يتشارك فيها الجميع، المهم في الامر أن وظيفة اعداد الخبز بشتى أصنافه هي من وظائف المرأة الاساسية، ولذلك تبين لي أن الطابون أيضاً كان من اختصاص المرأة، فهي التي كانت تختار “طينة الصمقة” التي تناسب صنع الطابون والذي من أهم مواصفاته الفنية الالتصاق وعدم التشقق، بالاضافة الى تحمل درجات الحرارة العالية لساعات طويلة.

وهنا لا بدّ وأن استذكر كتلة من الصحون الفخارية النبطية المحفوظة في مستوعات آثار البتراء والتي وجدت في فرن الزرابة، وأذكر انها أيضاً معروضة في متحف البتراء، والتي كانت منصهرة ومتلاصقة نتيجة خطأ ربما في الصناعة، وتظهر على احدى جزئيات هذه الكتلة آثار بصمة لإبهام مؤكد أنها لفتاه أو إمرأة، وربما يقودنا هذا الى أن النساء ربما كُنّ منذ زمن الأنباط هنّ المشتغلات في صناعة الفخار، ومعلوم أن الفخار النبطي الرقيق والملون والناعم ربما كان بأيدي النبطيات، ولا أحد يجهل قدرات المرأة وصبرها وقوة احتمالها التي تفوق الرجل عشرات المرات، وهذا هو المتطلب الأساس لصناعة الفخار النبطي الرقيق الذي ينسجم مع طبيعة المرأة أكثر من الرجل.

وما أذهلني من مقابلات النسوة ما للطابون في التقاليد الليثية من موروث اجتماعي غاية في الروعة والدقة، فلقد كان في مجتمع اللياثنة مجموعة من النساء معروفات بالخبرة في اعداد وصناعة الطوابين، وكن هؤلاء قبلة النساء عند الحاجة لصناعة الطابون، كما كانت النسوة تتشارك في احضار المواد المطلوبة تحت اشراف تلك الخبيرة التي ترافقهن الى أفضل الاماكن التي تتوافر فيها “طينة الصَمَقَه”، ومنها عين العرجا، اسفل شرق عين براق على طريق الطيبه، كما ذُكِرَت لي منطقة عين الطينه، وهي أيضاً مصدر الصلصال الذي استخدمه الانباط لصناعة الفخار في فرن الزرابة النبطي.

كانت النسوة تأتي بكتل طين الصمقه الأصفر – هكذا عَرَفن بالتجربة -، وفي العادة تكون كتل الطين مشبعة بالماء، فيجفف في الشمس يومين الى ثلاثه، ثم تدق كتل الطين وتُنَعّم، وتنخل لدرجة صفر للتخلص من الحصى والشوائب، ثم تُعجن وتخلط بالتبن بنسب متوازنه تعرفها الخبيرة، وتكون عملية عجن الطين مع التبن بالايدي والاقدام من قبل النساء اللواتي يتعاوّنَ في ذلك، ثم تحفظ مغطاه يوماً كاملاً، وقيل لي لكي تَختمر الطينه، وفي اليوم التالي تعاين الخبيرة الطين وتتفحصه بأصابعها، وان كان مناسباً تبدأ عملية الصناعة بعد الاتفاق مع صاحبة الطابون على حجمه، وكانت وحدة القياس هي عدد الأرغفه، كأن يقال: طابون أبو خمس أرغفه أو سبعة أرغفه، ويعتمد ذلك على حجم العائلة، وقد تتشارك عائلتين في طابون واحد أحياناً، ولحجم الطابون علاقة طردية بحجم الوقود المطلوب توفره لايقاده، فالطابون الكبير حتماً يحتاج وقود أكثر.

كما يتطلب “رضف” اكثر، والرضف هي كرات حجرية تتم عملية انتقاءها متقاربة في الحجم، وتجمع عادة من الاودية ومن الحجارة الرسوبية، ولا يمكن استخدام حجارة الصوان، أو بعض الانواع التي تتكسر في درجات الحرارة العالية وتعرفها النساء بالخبرة والتجربة وكذلك الخبيرة، ويوضع الرضف في ارضية الطابون لتغطيها بالكامل، ومهمتها هي حفظ العجين عن الوصول الى التربة في ارضية الطابون وبقائه نظيفاً.

بعد اتمام صناعة الطابون يجفف لمدة يومين وربما ثلاثة في الظل، حتى تكتمل عملية الجفاف، وتُعبأ الصدوع في جسم الطابون ان وجدت، وتسمى هذه العملية “التمليس”، ثم تبدأ عملية حرق الطابون، حيث يرفع على حجارة بنفس الارتفاع، تسمى “لدايا جمع لدِيّه”، ويوقد عليه بالحطب الجاف حتى يحمر الصلصال، ثم تخفف النار تدريجياً حتى يبرد، وقد تستغرق عملية الحرق والتبريد 5-6 ساعات وربما أكثر. بعدها ينقل الطابون الى موقعه الدائم، ويوقد عليه في اليوم الاول 3 مرات دون الخبز فيه، ويقال لكي يتخلص الطين من رائحة الوقود الذي هو روث الحيوانات “الزبل”، وفي ثقافة النساء بالتجربة، أن كل أنواع الزبل تناسب الطابون إلا زبل الطيور، لأنه حسب قولهن قليل ونادر، كما أنه يناسب الاشجار أكثر ان وجد، بالاضافة الى ان رائحته كريهة جداً عند الحرق.

ومن العادات المرتبطة بالطابون أن النساء كُنّ يَسْتعِرْن الطابون للطهي فيه، كما أن في ثقافتهم أنه من المعيب منع الطابون عن الناس إن جاءهم ضيف لطهي طعامه، فإطعام الضيف أولوية تتقدم حتى على أصحاب الطابون، ومن المعيب جداً في ثقافتهم العبث بالطوابين حتى من قبل الأطفال، وان حصل ذلك من جاهل فإن اهله يتحملون الضرر في حال تكسيره مثلاً، كما أن العابث نفسه قد يعاني بقية حياته بتعييره بعبارة “أبو الطوابين”، ولذلك يُحَرّص الأهل وبالذات الأمهات أطفالهن من العبث بالطوابين.

ومن الآثار الثقافية للطوابين في حياة الناس، أن الألعاب الشعبية للأطفال الذكور كان من بينها العصا الطويلة من القصب التي يربط رأسها وكأنها حصان، بينما ألعاب البنات كان من بينها أيضاً صناعة الطوابين من الطين، وكأنها تشكيل لشخصية الصغير وما ينتظره من مهام.

ومن أنواع الخبز التي يمكن طهيها في الطابون الخبز الخامر، وهو الذي يُغمس به كما يمكن حفظه لفترات طويله ربما يومين أو أكثر، وهو الشائع، بالاضافة الى خبز الفطير أو “الغلاسي” كما يقال، وهو الذي يصنع للفت، ومن أشهر الأكلات الليثية بخبز الفطير، فتة الرشوف، والمجلله، وفتة المرقه، كما يُطهى في الطابون أحياناً خبز المطبق المحشو بالشحم والبصل والبهارات، بالاضافة الى خبز “المْعَجّن”، وهو خبز الفطير المعجون بزيت الزيتون والمحلى بالسكر.

ومن أشهر وأطيب ما كان يطهى في الطابون “كعك الحجاج”، وهو طحين القمح البلدي المعجون بالزيت والمحلى والمحشو بالتمر، وهو لذيد وغني بمحتواه، كما أنه يبقى لفترة طويله صالح للأكل، وهو يصنع على شكل أقراص صغيرة واحده منها تُقِيت الانسان لساعات طويله وربما ليوم كامل، وكان هذا النوع رفيق الحجاج، لأنه خفيف للسفر ومغذي، ولا يحتاج للاعداد أثناء السفر، وربما كان هذا هو زُوادة الناس قديماً في الاسفار لما يتصف به من مميزات تناسب المسافرين بالوسائل التقليدية على ظهور الحيوانات.

من هنا يتبين لنا أن للطابون تاريخ وموروثات، ربما لم نهتم بمعرفتها رغم أننا نتلذذ بما نأكل من خبز الطابون، قد تبدو المعلومات جديده للبعض، وقد لا تبدو كذلك للبعض الآخر، ولكن فكرة الطابون بما لا يقبل الشك ضاربة في عمق التاريخ، فلقد رصدنا بدايته على ارضنا في البتراء منذ الآدوميين قبل الانباط، أي قبل حوالي 2500 عام.

كما تم حديثاً اكتشاف عشرات الطوابين في بيضه من قبل الباحثة الآثارية ميكيلا سينيبالدي تعود للفترات الاسلامية، وما زال الى اليوم يستخدم الطابون، وربما كانت موروثات الطابون هي متأتيه من جذور تاريخية عميقة بعمق وأصالة هذه المنطقة. أرجو أن أكون قد وُفقت فيما عرضت، واستبيحكم عذراً على الاطالة التي تتطلبها ضرورات ايصال الفكرة، والسلام.