اين الهجري الان ؟
وكالة الناس — لا يمكن القول إن مشكلة السويداء بمفهومها العام بدأت مع الأحداث الأخيرة التي ما زالت جارية خلال الشهر الجاري، بل هي قصة محافظة معقدة في تركيبتها السياسية والاجتماعية والدينية والجغرافية والديموغرافية، المحمولة كلها في الصراع منذ فترة حكم نظام الأسد وصولاً إلى عهد الثورة وتولي أحمد الشرع رئاسة البلاد. وكثيراً ما كانت السويداء على شفا انفجار جرى تداركه بطريقة أو بأخرى، إثر عقود من التداخل السياسي بين المركز في دمشق والمدينة الجنوبية التي ظلّت في موقع الوسط الذي لا يحارب بالسلاح ولا يهادن بالكلمة، ورويداً رويداً بترت يد حكم الأسد عنها، وحاولت أن تستمر في ذلك تحت حكم الشرع، فمنعت أرتاله من القوى الأمنية من دخول المحافظة عقب سقوط النظام، وذلك بناءً على أوامر من المرجعية الدينية الممثلة بالشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الموحدين الدروز، الذي تعمّد لاحقاً إحراج سلطة دمشق بعدم الاعتراف بها كركيزة شرعية واصفاً إياها بـ “الإرهابية والمطلوبة دولياً” مستبعِداً أية حالة اتفاق أو توافق معها.
محاولة الاستيعاب
حاولت سلطات الشرع تدارك الأمر، واستوعبت أن الشارع هناك يريد أمناً من أبناء المحافظة لحمايته، فأرسلت مصطفى البكور كمحافظ للمدينة وممثلاً عنها، وعمدت إلى إرسال أحد أكثر شخصيات السلطة هدوءاً وتفهماً وبراغماتيةً، لكن المحافظ تعرض لاعتداء في مكتبه من قبل عناصر خارجة على القانون من أبناء المدينة ما استدعاه لمغادرتها وتقديم استقالته، قبل أن يعود عن قراره في وقت لاحق ومتأخر ويعود أدراجه نحو الجنوب. ومع تتابع الوقت اصطلح على تسمية العميد أحمد دالاتي قائداً لأمن المنطقة الجنوبية بعد أن شغل مناصب في القنيطرة، على أن يبقى حُماة المدينة هم أبناؤها، لكن الوقت كان يمر على الطرفين كما السيف في ظل تعنت ومواجهات لفظية وكلامية، وسواد حالة من عدم الرضا بينهما، حتى انفجرت شرارة الأحداث التي انطلقت في الأسبوع الثاني من شهر يوليو (تموز) الجاري وقادت المحافظة نحو مصير أسود أفضى عن آلاف القتلى والمختطفين والمهجرين خلال عشرة أيام.
الانفجار المؤجل
مرحلة المواجهات تلك امتلأت ببيانات وأخرى مضادة من السويداء والسلطة، ومعهما دول الإقليم والعالم، لكن ذلك لم ينفع في تجنيب المنطقة هول ما آلت إليه الأمور، ما كرسّ مشهداً شبه وحيدٍ ينقسم فيه طرفان، الأمن والجيش أولاً، والعشائر العربية من كل الأراضي السورية لاحقاً، بمواجهة القوات الدرزية التي يقودها الهجري من دون أن تتمكن القوات المهاجمة خلال كلّ عمليات الكرّ والفر من إحداث خرق مستدام تسيطر فيه على المدينة من أقصاها لأدناها. ووسط كلّ ذلك أُعلن مراراً عن هدنٍ لم تصمد معظمها تحت وطأة ضعف التنسيق وانعدام الآلية المركزية لمراقبة القرارات.
الهجري الذي يبدو اليوم قائداً شعبياً محاطاً بأتباع وقبول كبير في الشارع الدرزي بات يمتلك قرار السلم والحرب الذي يوجه أتباعه من خلاله، على رغم بروز أصوات من داخل المدينة تعبر عن رفضها للطريقة التي يقود بها الأمور، لكن تلك الأصوات ظلت من دون جدوى أمام مسألة معقدة خلاصتها أن القضية هي “معركة حياةٍ أو موت” ما زاد الالتفاف نحو الهجري الذي يجيد نسج التحالفات الداخلية والخارجية.
من بديهيات السياسة ألّا تقبل أي دولةٍ قائمة بوجود تمردٍ يقوده زعيم ذو شعبية، لكن الحالة تختلف في السويداء، فالمدينة تعيش مذبحةً حقيقية قضى فيها من كل الأطراف، وهي لا ترغب في زيادة قاعدته الجماهيرية على رغم اتهامه مباشرةً من مسؤولين رفيعين في الحكومة بتعطيل مسارات التفاهم، وكذلك من قبل أطراف إقليمية ومن بينها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وصفه بـ “الطرف الثالث المعطل”.
الهجري بين الاغتيال المعنوي والثقل الشعبي
مصادر مطلعة أكدت أن قرار اغتيال الهجري لم يُتخذ بأي شكل سابقاً أو حالياً، نظراً لأنه طرف سوري يصلح ليكون شريكاً في مضمار تهدئة طويلة لا تبحث عن حلول خارجية، طالما أن تسوية الملف تمّت ضمن البيت الواحد وتحت مظلة الشرعية، ولكن أين الشيخ الهجري الآن؟ ومن أين يقاتل؟ وإلى أين يمكن أن يلجأ في أسوأ السيناريوهات؟
وفي هذا الإطار تحدث الكاتب الأكاديمي الدكتور مالك الحافظ حول هذا الملف فقال إن “الشيخ الهجري ليس مختبئاً، هو في السويداء، وبالطبع هو لا يقاتل شخصياً لأنه مرجعية روحية دينية، كما أنه أصدر بياناً طالب فيه وتحدث بضرورة فتح معبر مع الأردن، وهو على تواصل مع ‘قسد’ شرق سوريا، وهذان ممران للجوء إن كان لا بد من ذلك ولو في الإطار التنسيقي، وذلك لأن السويداء ليس لها ثقة في هذه الحكومة أو السلطة. وقد تعرض الشيخ خلال الفترة الماضية لحملة تجييش كبرى في مواجهته ومواقفه تولاها إعلاميون محسوبون على السلطة في البداية قبل أن تتوسع الحملة وشملت حتى قناة “الإخبارية” السورية وهي الناطق الوحيد الرسمي باسم الدولة، وكأن ذلك ينم عن رغبة في الاغتيال المعنوي”.
ويرى الباحث صعوبة في التواصل بين الهجري وما يمثله مع السلطة بعد كل ما حصل، فلذلك قد يجري البحث عن شريان حياة آخر والأردن هي أكبر المرشحين لذلك، ويتابع، “بعد الهجمة الأولى من وزارة الدفاع، والثانية من العشائر، بات الموضوع أكثر صعوبة وأعطى شرعية أوسع للهجري في ظل الانتهاكات والتجاوزات التي مارستها بعض الأطراف، وتالياً، لم يعد من المهم أين هو جغرافياً، بل الأهم أين هو بما يمثله من ثقل فعلي، بعض الناس والفعاليات والفصائل لم تكن مقربة منه ولكنها باتت كذلك الآن بعد ما حصل. وكان واضحاً وجلياً أنه تعمّد مطالبة معونة الأردن لفداحة الأحداث، على رغم أنه تحدث عن أميركا وإسرائيل وطالب بحماية دولية، ولكن نحن نتحدث في الاحتمالات الأقرب والأكثر حيوية، وأهمها ‘قسد’ والأردن”.
ويؤكد الباحث أنه “في حين جرى الحديث عن توغل بري إسرائيلي، كان يتم الحديث عن إمكانية توغل بري أردني، وهو الأقل وطأة كون الأردن ليست دولة احتلال ولا مشاريع استعمارية أحادية الجانب أو توسعية لها، وبالتالي ليس ضرورياً أن تكون إسرائيل خياره الوحيد، فالأردن موجود وفاعل في الشأن السوري، “الأردن مكان جيّد للجوء في الحال الأسوأ، وعلى الصعيد المحلي الأكراد، وقد طالب الأكراد من توم براك المبعوث الأميركي وقف الحملة على السويداء. المشهد جداً ضبابي، وهذا ما يعطل إمكانية استنتاج مسار الحوار مع دمشق بشكل فعلي”. وحول إمكانية التفكير باغتيال الشرع يشير الباحث إلى أن “الاغتيال المعنوي بدأ فعلياً، ولكن هناك خطوات يمكن أن تتخذها بعض الجهات لاحقاً بدءاً بمحاولة عزله وإبعاده عن قاعدته وإيجاد مرجعيات أخرى موالية لها. وأضاف، “استبعد أن تتخذ السلطات خطوات تصعيدية ضد أمان الشيخ الهجري لما يمثله من ثقل وعلاقات وازنة لا سيما مع أعضاء في الكونغرس الأميركي، ودول الجوار، وهذا يمنع حدوث عملية تصفية جسدية، إلا في حال نشوب خلاف داخلي بين الفصائل القوية التي تبدو متماسكة حتى الآن”.
الحل هو الحوار
بدوره، استبعد الصحافي السوري علي عيد أن تسعى السلطات السورية لتجعل من الشيخ الهجري هدفاً لها، لأنه مرجعية دينية وروحية في الجنوب. وأضاف، “ربما يكون قد اتخذ موقفاً قائماً على مصلحة نابعة من اعتقادات سياسية أو تحالفات معينة أو حتى تحت تأثير أو ضغط مجموعات معينة كالشيخ موفق طريف أو مجموعات مسلحة أو موظفين قدامى شعروا بالخطر أو حتى من شريحة من السويداء شعرت بالخطر. لا أعتقد أن هدف الدولة قتل أو تصفية الهجري، قد يكون الهدف هي المجموعات التي تمارس العنف أو التي ارتكبت انتهاكات أو تورطت بمواجهات مسلحة مع الدولة، وأرى أن هذا التوجه سيكون مدعوماً مستقبلاً من قبل المجتمع الدولي، بخاصة أن الحكومة الحالية اكتسبت شرعية لا بأس بها. حكومة دمشق وفق قوانين الأمم المتحدة ومجلس الأمن هي حكومة شرعية، والدولة في مفاهيم السياسة تحتكر العنف والسلاح ولكن لا تمارسه، وفي القانون الدولي من غير المسموح وجود مجموعات مسلحة داخل الدولة تمارس العنف تجاه مؤسسات الدولة، واعتقد هذا هدف السلطة في حال كانت تفكر بمواجهة”. ومن وجهة نظر الكاتب فإن الأفضل هو أن يكون هناك حوار حتى مع هذه الفئة لتدارك وتجنب مواجهات وصدامات عسكرية مستقبلية معها، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة فرض سيطرة الدولة، لأن استمرار المواجهات قد ينعكس إقليمياً.
وفي حال طرحت الدولة على الشيخ الدرزي إجراء حوار موسع ولم يقبل الاستجابة فيرى الكاتب عيد أن “الهجري يستند إلى موقف إسرائيلي وربما خطة كاملة بفرض توسع أمني ضمن أراضي سوريا. ربما هناك من يقنع الهجري بإمكانية سلخ السويداء، وطبعاً سمعنا بعض الأصوات من أحد الدروز في الكنيست الإسرائيلي وهو وزير سابق دعا لأشياء مشابهة، لكن يبدو أن الموقف الأميركي غير مستجيب، إضافة إلى الموقف العربي- التركي، ثم في تصريحات منفردة من الدول وبينها الأردن”. ويكمل “قد يكون هناك سيناريو معقد فيرتفع مستوى الصدام إلى درجة خطيرة قد تجعل الهجري مستهدفاً في مرحلة ما، لكن الأمور السياسية لا تسير هكذا، ومنطق الدولة أيضاً، فقد يتم تغليب موقف العقلاء في الجنوب نظراً لوجود نخب مثقفة وسياسيين وكوادر يتعارض مشروعهم مع الهجري، وهناك فصائل أيضاً تعارض المشروع على رغم تقلصها لكنها ربما تعود بعدما دفعت السويداء بمكوناتها من دروز وعشائر كل هذا الثمن، وبالتالي يمكن تقليص نفوذ الهجري إن لم يستجب للمبادرات الحوارية”.