الفـُشُخْ!
انبجس الدم من جبين الفتى شلالا غزيرًا، وضع يده على الجرح، وأضمر في صدره أمرا، انسحب من الحارة. هرع إلى أمه، قبل أن تسأل ماذا حدث، تمتمت بجملة شتائم لم يستبن الفتى كنهها على وجه التحديد، لكنها كانت مزيجا من خوفها عليه، وغضبها عليه أيضا، سحبته إلى المطبخ، أو ما يمكن أن يُسمى كذلك، تناولت آنية بلاستيكية، وحَشَت الجُرح ببعض القهوة، وسحبت فتاها إلى عيادة المخيم، كان الدكتور حبش كعادته يصرف دواءه السحري: حبيبات بيضاء تشبه بعضها، تكمن داخل عبوات، تبدو وكإنها لا تعني شيئا، لإنها متشابهة، أو هكذا كان يُخيّل للفتى، صَبَّ الدكتور حبش غضبه الاعتيادي على أم الفتى:
– جهلٌ وتخلف، قهوة؟ لوثت الجرح!
-وماذا أفعل يا دكتور، أردت أن أقطع الدم!
-هذا ما تفعلونه عادة، حيوانات، لاجئون! كم قلت لكم ألا تفعلوا هذا، مفيش فايدة فيكم.
نظف الدكتور حبش الجرح بقطعة من الشاش، وهو يتمتم، ووضع عليه «دواء احمر» – هكذا كنا نسميه- ولفّ راس الفتى بقطعة ضماد طبي.
في طريق العودة، لم تكف أم الفتى عن تانيبه:
– طول عمرك شقي، كم أوصيتك ان لا تتعارك مع الأولاد، وان تتجنبهم، احنا ناس مستورون، مش بتاعين مشاكل، أوعى تعيدها، والله بغضب عليك!
ثُم تُمسك أم الفتى بأُذنه، وتشُدّها قائلة:
– بِتُّوب تْعِيدْها؟
– بتَوبْ يَمَّهْ بَتوبْ!
ويضع يده على اذنه، وهو يقسم في أعماقه ألا يتُوب!
يصلان البيت، تنشغل الأم ببعض شؤونها، ويخرج الفتى من فوره، ينتقي حجرا مناسبا، بحجم قبضته الصغيرة، ويقف في بدأية الزقاق المُفضي إلى بيتهم، يُحرك عينيْه في حركة يمسح فيها المكان كرادار يقظ، لم يأت بعد، ينتظر قليلا، متذرعا بصبر الصياد، لم يطل انتظار الفتى طويلا، فقد جاء غريمه: إبراهيم ابن الجيران الذي «فشخه» يتحرك الفنى بحركة أشبه ما تكون بوثبة حيوان غريزية، ويُلقي بحجره باتجاه الغريم، انتظر لحظة لِيُوقِن أن حجره وصل إلى الهدف، وحينما اطمأن أن دم فريسته نفر من رأسها، استدار مُسرعا منْسحبا إلى البيت.
باغتته أمه بالسؤال فور أن رأته يدخل البيت:
– شو مال وجهك أصفر؟
– ولا شي!
– إحكي!
– فَشَخْتُه!
– يا مْشَحَّرْ! الله لا يهديلك بال، فظحتنا مع الجيران!
– زي ما فشخني فشخته، هو مش أحسن مني، وإذا فشخني مرة ثانية رح أفشخه، وأفتح راسُه كمان، أبوي قال لي إني ما أبيّت ثاري، واللي بفشخك افشخه!
– بس هاظ ابن جيرانا يمه!
– وَلوْ، ليش فشخني؟
انزعاج الأم كان كما يبدو ظاهريا، فقد كانت في داخلها تشعر بسعادة غامرة، ها هو ابنها الصغير كبُر، ولم يعد «سْقيطَة» كما كان يحلو لها ان تناديه أحيانا، فقبل أن يجف جرحه، فتح رأس غريمه، (ليتنا كنا نفعل كما يفعل أبناء هذا الجيل!) هكذا قالت في داخلها!.
hilmias@gmail.com