قبر «أنزور»!!
لا أعرف ما اذا كانت تلك السيدة مسيحية أم مسلمة؟ شيعية أم سنية، كردية أم عربية، لكن ما عرفته هو أنها أم من سوريا فقدت ابنها الوحيد واسمه أنزور ثم قررت ان تحتفظ بجثته، كما في ملحمة جلجامش، وانتهى الأمر بأن دفنته تحت نافذة الغرفة التي كان ينام فيها، وحولت القبر الى بيت خشبي مزخرف على الطريقة الشامية، وأصبحت تتناول قهوة الصباح مع ابنها الصامت تحت الارض وتنادمه طيلة الليل، وتقدم له وجبات الطعام بجانب وجباتها، بحيث ظن الجيران أنها جُنّت، لكنها كل ما في الأمر انها رفضت التصديق بأن وحيدها مات وفي حرب شبه أهلية بحيث لا تدري من قتله.. والأمومة عصية على خانات الطوائف والمذاهب تماما كما هي الارض التي لا تعاني من مثل هذه التضاريس وكما هو الماء والهواء والحزن البشري.
شاهدتها وبكيت معها على ابن لا اعرفه وتذكرت على الفور ما قالته أمي ذات يوم عندما جاءت من دير الغصون الى سحاب لتدفن أصغر الأبناء وأجملهم وحين صبّ الحارس الماء على القبر صاحت به انه بارد، فهي ايضاً أم رفضت التصديق بأن ابنها قد غاب الى الأبد، لكن أمي من حسن حظها انها لم تعش حتى الآن لتقاسمنا الحزن المضاعف والخذلان بعد أن عرفنا بأن أخانا اغتيل في البقاع ولم يقتله الاعداء.
السيدة السورية لم تتزوج من ابنها الوحيد بالطبع، لكنها قالت بأنها أصبحت أرملة مرتين، هكذا تحس الأم الثكلى بعد أن غاب الابن والأب معاً، في اللحظة التي صاحت بها أمي على حارس المقبرة لأنه صبّ الماء وهو بارد على قبر ابنها، أحسست بأن الأشجار القليلة حولها تبكي، وان الحجارة أصيبت بقشعريرة، اما شمس الغروب في لحظة الغسق فقد قفزت الى مكان آخر.
كل من قتلوا وذبحوا وشردوا وضاعوا لهم آباء وأمهات ان كانوا أبناء ولهم آباء وبنات ان كانوا آباء وأمهات وما من واحد منهم ولد من شق في جدار لكنهم يتحولون في زمن الاستباحة والانتهاك الى مجرد ارقام صماء، كما لو انهم خراف او عجول واحيانا يصبح الانكى من الموت هو سببه اذا كان مجانيا او عن طريق الخطأ.
اما البشرى التي نزفها الى عرب الربع ساعة الاخير، واعراب الثأر والنكاية وظلم ذوي القربى، فهي ان من قتلوه من بعضهم خلال نصف قرن يساوي بدقة خمسمئة ضعف مما قتل منهم الاعداء.
وللتوضيح نقول ان مقابل كل عربي قتله الاسرائيليون هناك خمسمئة عربي قتلهم ابناء جلدتهم ووطنهم ودينهم وهناك معادلة ديمغرافية لا تحتاج الى حاسوب ذكي او حتى غبي، تتلخص في ان خمسة ملايين يطاردون ثلاثمئة مليون اي ثلث مليار، وينتهكون مقدساتهم ويستوطنون ترابهم!
ان الكتابة الان اما ان تكون غرزا للاصابع في العيون التي ملأها الصديد او ان تكون بماء الوجه إن تبقى منه شيء بعد ان باع الابن اباه، وجاعت الحرة واكلت بالثديين، ولاذت القطط بالفرار امام فأر هزيل!! اما قبر انزور فهو قبر مالك الذي رثاه اخوه قائلا ان قبره بسعة كل هذا الكوكب!