الحروب البديلة
لم تعد الحرب، مجرد حرب عسكرية، إذ إن الدول اليوم، تتعرض لحروب، من خلال وسائل بديلة، وليس أدل على ذلك من قدرة الدول على شنّ حروبها ضد دول ثانية، وخلخلة استقرار الشعوب، وبث الفتن المذهبية والطائفية والدينية والعرقية، والإشاعات والأكاذيب.
الدول تتحكم بالشعوب في دول ثانية، وأقصد هنا أن القدرة باتت متوفرة لديها من خلال المحتوى، على التحشيد للمظاهرات، وإسقاط الأنظمة، وهذا ما رأيناه خلال الربيع العربي، حيث تمكنت وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تطبيقات التراسل، من تحشيد الملايين، في مشهد يفوق قدرة الدول على وقفه أو قمعه أو التخفيف من آثاره، بما أدى إلى نتائج محددة.
يخرج وزير الاتصال الحكومي الناطق الرسمي باسم الحكومة فيصل الشبول يوم أمس ليقول إن الأردن تم استهدافه من220 ألف حساب من جهة خارجية، كلها روّجت لأفكار محددة، وكلام الوزير سبق أن قاله وزراء آخرون خلال العقد الأخير، لكن للأسف ذهنية التشكيك سائدة لدينا، ولا يريد البعض أن يصدق هذا الأمر، هذا على الرغم من أننا نلاحظ مثلا، في تواقيت معينة حدوث منخفضات إلكترونية على الأردن عبر تيتوك وفيسبوك وتويتر والواتس أب وغيرها، كلها تركز على صورة محددة، أو إشاعة محددة، وآخر ما عشناه كان أحداث معان المتعلقة بسعر الوقود والشاحنات، حيث تدفقت مئات الفيديوهات الكاذبة حول اقتتال في الشوارع، ومواجهات في مناطق مختلفة في المملكة، وكأنّ من يدير الحملات يريد تثوير الداخل الأردني.
هذا واقع تواجهه دول ثانية، من خصوم مختلفين، والأردن أدرك معركة المحتوى العربي على الإنترنت مبكرا، ومخاطر هذا المحتوى الذي يبث الكراهية والأزمات والفتن، ويتجاوز حتى على خصوصية القضية الفلسطينية، ويسمح بمرور آلاف المواد المزيفة دون تدقيق أو فحص.
سيشهد الأردن نهاية الشهر الحالي، حلقة مهمة من قيادة الأردن لمبادرة عربية بشأن المحتوى السيئ، حيث سيتم عقد اجتماع يضم سبع دول هي الأردن والعراق والإمارات والسعودية ومصر وتونس والمغرب، إضافة إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية واتحاد إذاعات الدول العربية، وسيمثل هذه الدول وزراء الإعلام، أو رؤساء هيئات الإعلام في الدول التي لا يوجد فيها وزارات إعلام، وهذا الفريق سيناقش أسس التفاوض مع الشركات التي تدير المحتوى عبر الإنترنت مع التركيز خلال المفاوضات المقبلة على عدة نقاط، من أبرزها ما يخص القضية الفلسطينية والموقف المعادي للفلسطينيين على هذه الوسائل، ومستويات التحريض على العنف، الكراهية، الاقتنال الديني، المحتوى الجنسي، ومحاولات بث الفتن داخل الشعوب، أو بين الحكومات وشعوبها بما يمس الاستقرار، ومساهمة هذه الوسائل في بث الإشاعات والاعتداء على الخصوصيات، ومحاولات إيذاء المرأة والطفل، بوسائل مختلفة، دون أي اعتبار لقيم الثقافة والدين، إضافة إلى ما يتعلق بواردات هذه الوسائل الإعلانية التي تعد ضخمة جداً، وسط سوق عربي يضم 170 مليون مشترك في الإنترنت، ولا تستفيد منها وسائل الإعلام المحلية.
هذه الخطوة الأردنية تسلسلت وتطورت ووصلت الى هذا المستوى، حيث طرحها الوزير الحالي في 22 سبتمبر 2022 كمبادرة أردنية لتنظيم العلاقة مع شركات الإعلام الدولية، وتحديدا وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك خلال اجتماعات لمجلس وزراء الإعلام العرب في القاهرة في مصر في الدورة 52، للوصول الى تفاهم مشترك ينظّم العلاقة بين الدول العربية وشركات التواصل الاجتماعي، في مجال تحديد المحتوى، كما أرسل الأردن وفداً إلى ألمانيا للاطلاع على تجربتها في التعامل مع شركات الإعلام الدولية، وعلى السياسات التشريعية والإجرائية، على مستوى الاتحاد الأوروبي، ولا سيما بشأن سياسة حذف المحتوى غير القانوني، والسيادة الرقمية للدول، وحماية النقاش العام من المحتوى الضار.
سيأتي اجتماع عمان نهاية الشهر الحالي وقد سبقته اجتماعات في الكويت والمغرب أيضا، خطوة تقود على ما يبدو إلى مرحلة مختلفة في التعامل مع ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية، خصوصا، مع عدم اهتمام شركات التواصل بكل الملاحظات التي تصلها، وتركيزها فقط عبر أنظمتها على حذف ما يدعم القضية الفلسطينية، وترك أي مضمون سياسي قائم على الإشاعات، أو أي مضمون يمس الدين والأخلاق، ويحض على الكراهية والاقتتال، دون أي مراجعة باعتباره مجرد حريات عامة.
هذه حروب تمثل بديلا عن الحروب العسكرية المعتادة، وأخطر منها أيضا.
(الغد)