الوطن المطار..
لأن بيتي يقع بين العاصمتين – فالمسافة الى عمّان كانت نفس المسافة الى دمشق-قررت ذات رحلة أن أطير الى دبي من دمشق..حزمت حقائبي صباحاً ،أوقفت سيارة أجرة..وانطلقنا نحو مطار الشام..
كان ذلك قبل عشر سنوات تقريباً.. نوافذ السيارة مقفلة ، فلسعة البرد الصباحية تزيد من قشعريرة الغربة ، في جيبي العلوي جوازات السفر .. ما ان خرجنا من «درعا البلد»… حتى فردت سوريا رداءها الأخضر.. حقول لا تنتهي مسطّرة بالزروع كدفتر تلميذ مجتهد ، جرارات زراعية تهرول على يمين الشارع ، تحمل فلاحين مكافحين وسيدات كادحات… أسراب من الحمام البلدي يطير سوية ويحط سوية على بذار طازج تساقط للتو من يدّ مزارع «حوراني».. بيوت بعيدة ،يخرج منها دخان الأفران المحلية… دكاكين بدائية ،صبي على دراجة يحمل «فرشة من الكعك» تجوب الأحياء ، سيارات قديمة من غير أبواب تنقل ركاباً بين القرى البعيدة، كان الوطن كلّه يشبه فلاّحيه… لا يهتم بالمظهر كثيراً بقدر ما يهتم بالإنتاج..
الان وانا أتابع القصف الروسي ، والقصف الفرنسي والقصف الأمريكي والقصف الايراني والقصف الداعشي.. احن الى سوريا الأم.. سوريا الصافية كعين يمامة ، المسالمة كصوت عصفور ، الناعمة كحرير حلب ، احن الى سوريا الساهرة على جبل قاسيون وعلى كتفها فلسطين وشال.. احن الى مناظر الحميدية وباب تومة وكل الشوارع التي كانت تسكب السهر على طاولة الليل… احن الى سوريا الصوت والصورة من غير دماء أو انفجار او استباحة…
الان معظم اصابات السوريين ليست في رؤوسهم كما يشاع وانما في أقدامهم.. لكثرة ما ينظرون الى سماء الوطن وفرز محركات المقاتلات هذه تحالف ،هذه تخالف ،هذه «روسية».. فيتعثرون ويسقطون أرضاَ ويبكون على ما يعشقون…
سوريا الآن؛ بمجدها، بتاريخها ، بنضالها ضد الاستعمار صارت «بوفيه مفتوح» للاستعمار… سوريا الآن مجرّد مطار دولي كبير.. تستقبل من باب القادمين موسكو ، وباريس ،وواشنطن ولندن وطهران من غير «فيزا» او تصريح» .. وتودّع في باب المغادرين… شهداء وقتلى ولاجئين يبحثون عن وطن بحجم ضريح!…