المعارضة و«طربوش» الأقليات
من عبد الباسط سيدا إلى غسان هيتو، مروراً بجورج صبرا..تحرص المعارضة السورية على تظهير صورتها “الوطنية”، وتبديد ما علق في الأذهان عن “ثورة سنيّة” ضد نظام علوي، مدعوم من قبل بقية الطوائف والإثنيات..ومن أجل إنجاز هذه الغاية النبيلة، لا ضير من وضع “طربوش الأقليات” على رأس المعارضة.
لكن الإتيان بشخصية سياسية من هناك أو “تكنوقراط” من هناك، من دون أن تكون له أية قواعد شعبية واجتماعية، لم ينجح في تبديد قلق الأقليات، ولم يغير من الصورة أو المعادلة..وتذكرون بلا شك، ونذكر، كيف سقط في جورج صبرا في انتخابات الهيئة السياسية للائتلاف الوطني في الدوحة، وكيف جاءت به جماعة الإخوان، بعد هذا الدرس القاسي، على رأس المجلس الوطني السوري.
لم تفلح المعارضة السورية حتى بعد مرور عامين على الثورة، في استقطاب بقية مكونات الشعب السوري وطمأنتها..وباستثناء عناصر محدودة (سفراء) من كل أقلية من الأقليات، يصعب القول، أن للمعارضة نفوذاً وازناً في أوساط هذه المكونات، التي تجد نفسها في حالة اصطفاف خلف النظام، ليس حباً به بالضرورة، ولكن خوفاً من بدائله وقلقاً على المصائر.
ما كان مع بدء الثورة فشلاً عابراً قابلاً للإدراك والتدارك، تحوّل بعد مرور عامين على انطلاقتها، إلى خلل بنيوي عضوي، عصي على التجسير والمعالجة، والسبب كما بات معروفاً، يعود إلى ارتفاع منسوب “الخطاب المذهبي” في صفوف المعارضة، ونجاح تياراتها الدينية (الإسلامية) الأكثر تشدداً في احتلال مواقع متقدمة ونفوذ متزايد في صفوفها وأوساطها، الأمر الذي أطاح بفرص تعميم روح الثورة والانتفاض على مختلف المكونات السورية، وأبقى النظام مسلحاً بـ”سيف المدافع عن الأقليات”.
بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط، يستطيع النظام وحلفاؤه الزعم بأنه ما زال يحتفظ بشعبية واسعة نسبياً رغم كل هذا القتل والدمار..بل وتستطيع أوساطه أن تزعم، بأن أكثر من نصف الشعب السوري، ما زال يقف وراء نظامه، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن 30 بالمائة من الشعب السوري، هم من غير العرب السنة، وإذا ما افترضنا أن النظام يحظى بتأييد ربع العرب السنة السوريين، من تجار واصحاب مصالح ومنتفعين وقلقين من التغيير، فهذا يعني أن النظام، ما زال يحظى بدعم (أو عدم معارضة) قرابة نصف الشعب السوري.
لم يبعث اختيار عبد الباسط سيدا الطمأنينة في نفوس كورد سوريا، الذين يتجهون بغالبيتهم العظمى لتأييد الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (الطبعة السورية من حزب العمال الكردستاني – التركي)، الذي يثير نفوذه المتزايد وتنظيمه العالي، قلقاً عميقاً في دوائر صنع القرار التركي..كما أن تعيين غسان هيتو، لن يبدل الصورة كذلك، فكلا الرجلين جاءا من الاغتراب السويدي والأمريكي، البعيد والطويل، وكلاهما لا يحظى بنفوذ وتأييد شعبيين في أوساط الكورد، ولو كانا بخلاف ذلك، لما جرى اختيارهما أصلاً لشغل هذه المواقع، التي ترغب أطراف نافذة في المعارضة، في إحالتها إلى شخصيات غير وازنة تمثيلياً.
ويصعب على المراقب التفريق ما بين خطاب جورج صبرا، المسيحي والشيوعي السابق، وخطاب الجماعة التي جاءت به إلى رئاسة المجلس، بل وعن خطاب تياراتها “الحموية” الأكثر تشدداً..وكيف لا يكون كذلك، وهو المدين لها بوصوله لموقعه وبقائه فيه، لكن محصلة هذه “اللعبة” جاءت “صفرية” على صعيد طمأنة المسيحيين السوريين وجذبهم إلى صفوف الثورة والمعارضة.
ويخطئ من يظن أن هذا الخلل في “الطابع التمثيلي” للمعارضة السورية، لم يكن سبباً جوهرياً (وليس وحيداً) لضعف أو تأخر تأييد المجتمع الدولي لها..فالعواصم الأشد حماساً في الغرب لرحيل الأسد أو ترحيله، ينتابها قلقا عميقا على مصائر الأقليات المختلفة، وفي صدارتها الأقلية المسيحية بالطبع، وهذا ما يفسر مواقف عدد من الدول الأوروبية (بمن فيها ألمانيا) الرافضة لتسليح المعارضة والمعارضة لفكرة “الحسم والتدخل العسكريين”..وهذا ما يفسر جزئياً على الأقل، التردد الأمريكي حيال المسألة السورية.
بعد عامين على انطلاق الثورة السورية، لم يتراجع خطابها “الوطني” و”الديمقراطي” فحسب..لم يتراجع طابعها المدني – الشعبي – السلمي فحسب..بل وانخرطت حد التماهي، طائعة أم كارهة، في حروب المحاور الطائفية والمذهبية التي تشق الإقليم برمته، والمرشحة لشق سوريا وتحويلها إلى إمارات و”كانتونات” طائفية ومذهبية وقومية..وليس مهماً بعد خراب البصرة وحمص، الغرق في جدل بيزنطي حول هوية المسؤول عمّا آلت إليه سوريا التي كنّا نعرف..والتي لم نعد نعرف.