تركيا .. قراءة أخرى
سأحاول من خلال هذه القراءة العاجلة للواقع في تركيا أن أسلط الضوء على بعض الحقائق سريعاً ليكون القارئ على علم ودراية بالواقع التركي وفق تحليل المشهد السياسي هنا بصورة واقعية بعيدة عن التهويل والتهوين في الشأن التركي برمته .
البداية بمشروع العدالة والتنمية الذي حقق الكثير من التغييرات الفعلية على أرض الواقع بفعل توظيف القدرات المادية الواردة لتركيا من مواردها المتعددة في الخدمة العامة وزيادة مستويات الرفاهية للفرد ، والاعتماد على البلديات الفاعلة ، والمؤسسات الأهلية والوقفية الناشطة ودعمها فعلياً لتحقق أعلى قدر ممكن من التنمية .
هذه الصورة متحققة لحد كبير ويلمسها المواطن التركي والضيف الوافد لتركيا على حد سواء ، ولكنها في الآن ذاته قراءة في كتاب كامل يضم قراءات أخرى ، فهذه الحكومات المتعاقبة التي تنجز فعلياً ، هي التي تسكت الجيش التركي عن التدخل ، وملف الأكراد الذي خبا نوره لسنوات قلّص دور العسكر فعلياً في الحياة العامة ، لكن دون أن يغيب عن المشهد بقوته وتأثيره .
الجيش والدولة العميقة وطبقة المنتفعين الاقتصاديين من الدولة ومؤسساتها لا زالوا الثالوث القوي في تركيا ، ولن تقوى حركة حكومات العدالة والتنمية على تنحيتهم في ظل سنوات حكمها القصيرة ، فهم قد تغلغلوا في مفاصل القرار واستحكموا في بؤر التأثير ، كأنهم يراقبون المشهد برمته .
إضافة إلى ذلك ، لا زال كابوس الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات الدولة الحكومية والفرعية يضرب بجذوره على الحالة التركية التي تعيشه بكل حيره ويشكل لديها ناقوس خطر يلمسه الجميع ، فهذا الفساد وحالة الواسطة والمحسوبية لم تنته صوره في ظل حكومات العدالة والتنمية وأن كان قد خفت الحديث عنه ، ولكنك لن تكون منصفاً إن لم تذكر أن الحال هنا كالحال هناك في عالمنا العربي ، مع بعض الفوارق في الكم والصورة وشكل الاختلاسات والفساد .
أما تنظيمياً وإدارياً ، فعدم القدرة على تعبئة المواقع القيادية بعد فصل الكوادر التي تنتمي لجماعة غولين ، وعدم وضوح آليات اتخاذ القرار داخل منظومة حزب العدالة والتنمية يجعلنا نسلط الضوء فعلياً على طبية عمل ودور اردوغان وفريق العمل الأساسي في الحزب ، فحزب حقق كل هذه الانتصارات يعيش ظروفاً تنظيمية مماثلة يجعله ضعيفاً أمام مواجهة التقلبات السياسية في المنطقة .
يطلب مني كثير من الأصدقاء تحليلات إعلامية عن الواقع التركي في ظل التدخل الروسي الأخير والمتغيرات الحادثة ، ولكن الصورة أكبر من حدود سوريا أو حدود تركيا ، نحن اليوم نتحدث عن معالم جديدة لمنطقة تتشكل جديداً بعيداً عن سايكس بيكو ، والكعكة فيها لم تقسم ، وألمانيا وروسيا وأمريكا وفرنسا وإسرائيل وإيران تريد الحصص فيها دون أن تكترث لما تشكله فاتورة التغيير من كوارث ودمار ودماء .
إن تركيا اليوم في عين العاصفة ، ما بين سوريا والعراق وأوكرانيا وأرمينيا واليونان والتحالفات الإسرائيلية مع أعداء تركيا ومخالفيها ، وكل دولة تريد اليوم بالذات أن تلعب على وتر، فأمريكا وإسرائيل على وتر التخريب الداخلي وضرب الاصطفاف حول العدالة والتنمية ، وروسيا وألمانيا على الحدود ما بين تنظيم بي كاكا وبين التزويد لخصوم تركيا بالسلاح والخبراء، وجهود أخرى لتأليب العسكر التركي ،وسحبهم للتدخل بحجة الواقع الأمني الداخلي والخارجي .
عاطفيا ، نقول اللهم كن مع تركيا ووحد الصف واجمع الكلمة وانصر اردوغان ومشروع التنمية والاستقرار ، ولكن في السياسة ، لا بد من تشكيل الاصطفافات الدولية واللوبيات الضاغطة لتفكيك جبهات الضغط على تركيا حتى تنتصر في ملفاتها واحداً واحداً ، لا سيما أن تركيا تخوض اللعبة اليوم لوحدها فعلياً ، فمصر قد سبي قرارها ، والسعودية اشغلت باليمن وملفات الحج ونحوها ، وقطر لا تقوى على فرض قرار دولي يواجه سطوة الدول الكبرى .
ولذلك أقول ، هذه الانتخابات ستكون مفصلية وفاصلة ومفصّلة ومقصلة ، وستتحدد على إثرها الكثير من التوجهات ، فإن فاز العدالة والتنمية ، توجهت تركيا نحو الاستقرار شيئاً فشيئاً ، وإلا، فدوامة ستعم الشرق برمته ، ولن أذكر دولاً هنا فالمسميات والحدود ستختلف لا محالة .