أيام الزيت أصبحت أمسيت
قصيراً يصيرُ النهار: (النهارُ ليس إلا خطوتين اثنتين!)، على رأي أبي رحمه الله. والمدرسة القبيحة تبلع خطوة منا أو أكثر. فماذا تبقى من جحش النهار؟!؛ كي نسابق شمساً طرية تتخاتل بين فروج الغيم، فالمواسم زيتون، ونريد أن نلحق أهلنا في الكروم، نعينهم، ونمرح كزرازير الفجر، فنرمي كتبنا في حوش البيت، ونطير نلاحق ظلنا الممطوط. ياااااااه، كيف يلهث بنا هذا النهار. ألا تمهل أيها الجحش الجميل!. لتشرين نكهة أخرى. تشرين هذا الفتى المحمم بليفة المطر، المعطر بلثغة سفرجل يتدلى على أمه كرات من ذهب فوّاح. تشرين سيد شهور الأرض!، والزيت عمارة بيوتنا، ومسامير ركبنا، ودمنا الثاني، ونسغ قناديلنا الساهرة بخشوع لحكايا آبائنا الطيبين. تشرين عريسنا التيَّاه، وحبنا المُخضب بعبق الطيون، لما يطرحُ زهره الأصفر الحنون في الدروب، تشرين المجلل بنقيق الضفادع في آخر الوادي، وحنين (القبرات) قبل المغيب. تشرين نكهة تطرزت بأثواب جداتنا المتعبات بحب في مواسم الزيتون، فيعدن صبايا في العشرين. سلام على تشرين، ما غنَّى بلبلٌ على شجر الحور المهزوز بموسيقى الريح. سلام عليك يا أرضنا المخضّبة بالحناء، المزنّرة بالتعب العذب. سلامٌ علينا، نجترُّ بقايا أغانينا المحترقة باللهفة والأشواق. سلامٌ على جنون أنفاس تبقينا صغاراً برسم الكهولة، ندرجُ على عتبات الطفولة، فلا نكبر أو نشيخ. سقى الله أحلاماً تمشي، والجدة الحادبة تنفخ في النار، تؤجج إبريق شاي مسخم، وخيوط الدخان تمشط ما بان من ذوائبها، فتزداد شيباً على شيب (فيا طيب شيب الجدات). سقى الله أيام كنا ندفن بعض الزيتون، بعيداً عن عين الجد الصيادة، لنبيعه بعد حين للتاجر الغشّاش، الذي نصب خربوشاً (خيمة صغيرة) قرب النبعة. التاجر الذي دأب أن يرجِّحُ كفة ميزانه، وينهرنا بشتائم تحت حزامية، إذا ما هششنا نحلة عن (صدر) الهريسة؛ خوف أن تعلق بعض الحلاوة بأطراف أصابعنا. التي سنمصها بنشوة نشوى. ومع هذا، سلام عليه. سلام على جدي يقطر عرقاً، تحت كوفيةٍ نسيتْ لونها. سلام عليه ينفض عناءه الكبير، بسيجارة هيشي (الدخان البلدي)، تعدل مزاجه، فيرندح لنا موالاً، ويأمرنا غناء أن نتعجل (الشمس غابت يا بن شعلان!، وأريد أدور معازيب!)، فنهزج بعده بالأغنية، ونحن مزروعون في الشجرة، ونشدِّ أيادينا. فنضربُ غصناً بعيداً بالرطيبة (عصا طويلة)، فينفجر صراخاً، كأنَّنا نقرنا جبهته المجعدة، يرمي سيجارته ويطلق مدفع شتائمه الرشاشة. وبعد أن يبرد، يهمس بدموع: الزيتونة صبية العشرين، فلا تضربوا الصبايا يا أولاد.