0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
previous arrow
next arrow

وداعا أم المجاهدين والشهداء، وداعا خنساء فلسطين

أمس فجرا أغمضت أم نضال (مريم فرحات) عينيها، وذهبت إلى ربها راضية مرضية، بعد رحلة جهاد ولا أروع سطرتها بالدم والدموع والبطولة والتضحية. أم نضال أيقونة فلسطين، وراية عزها التي انتصب طويلا في وجه الغزاة، فأذلتهم أيما إذلال.

أم نضال، قصة تستحق أن تروى لكل الأجيال، ليس اليوم، بل في كل زمن كي تستلهم بطولتها وتضحيتها كلما حاصرتها الخطوب. تستلهمها في سياق مواجهتها لغطرسة الاحتلال، أي احتلال.

إنها خنساء فلسطين بامتياز، تلك التي تبعتها خنساوات كثر؛ في فلسطين وفي ساحات المقاومة والجهاد الكثيرة، وربما سبقتها خنساوات أخريات على الدرب بعد الخنساء الأولى (الصحابية) التي قدمت زوجها وأبناءها الثلاثة في معركة واحدة واستقبلت نبأ استشهادهم بالدعاء إلى الله بأن يجمعها بهم في جنات النعيم، لتسطر بذلك تلك المسافة الهائلة التي يصنعها الإيمان في نفوس البشر، هي التي بكت دهرا على أخيها صخر، وكتبت فيه أجمل الأشعار:

فوالهفي عليه ولهف نفسي أيصبح في التراب وفيه يمسي

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

قبل ذلك اليوم من أيام شهر آذار 2002، كان المعروف عن نساء فلسطين أنهن يستقبلن أبناءهن الشهداء المرفوعين على الأكتاف بالزغاريد والدموع، وكم غنى المغنون للشهيد المحمول على الأكتاف وأمه التي تطلق الزغاريد، وكتب محمود درويش يقول: “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها. أجمل الأمهات التي انتظرته وعاد..عاد مستشهدا. فبكت دمعتين ووردة، ولم تنزو في ثياب الحداد”.

في ذلك اليوم من أيام شهر آذار 2002، وما ان ظهرت أخبار عملية الاقتحام الاستشهادية البطولية في مستوطنة عتصمونا في قطاع غزة، حتى تساءل الناس عن ذلك البطل الذي نفذ العملية وأردى سبعة من حراس المستوطنة قتلى، وجرح آخرين قبل أن يقضي شهيدا بعد نفاذ كامل ذخيرته من مخازن رصاص وقنابل.

كانت عملية في منتهى البطولة والروعة. ثم جاء الخبر. إن البطل هو محمد فرحات، ابن أم نضال فرحات الأصغر، محمد ذو التسعة عشر ربيعا، لكن الأهم هو تلك الصور التي تدفقت بعد ذلك وأصابت الناس بالذهول، والصهاينة بالرعب والإذلال.

في الصور، كانت أم نضال فرحات تحتضن ابنها وتودعه في طريقه نحو الشهادة، وتوصيه بأن يقاتل قتال الأبطال، ويرتقي كما أجمل الشهداء.

من يومها، صارت أم نضال أيقونة فلسطين الأجمل، لاسيما حين علم الناس لاحقا بسيرتها، هي التي قدمت شهيدين آخرين (نضال ورواد)إلى جانب محمد، وأسيرا أمضى 11 عاما في سجون الاحتلال. ولم تضف عضويتها في المجلس التشريعي شيئا، فقد ظلت كما هي أم الشهداء والأبطال وعنوان التحريض على المقاومة والجهاد.

لم تتوقف أم نضال، بل لعلها بدأت، فقد تحولت من يوم استشهاد محمد إلى أم المجاهدين والأبطال الذي يذهبون إليها (كما تذهب إليهم في القواعد) كي يستلهموا منها أبجديات التضحية والبطولة، الأمر الذي أغاظ المحتلين الذين ردوا باستهداف منزلها بالقصف والتدمير خمس مرات في مناسبات شتى، لكن الله لم يكتب لها الشهادة بالصواريخ، فكانت خاتمة رحلتها إغماضة جفن في مستشفى الشفاء في قطاع غزة بعد رحلة معاناة مع الأمراض التي أورثتها إياها تلك الرحلة الشاقة.

لأم نضال قلب طفل، فكم بكت على شهدائها وشهداء فلسطين، تماما كما بكت محمد دون أن يراها وهو في طريقه للشهادة، لكنها أرادت أن تكون رابطة الجأش، تثخن في عدوها وتمعن في قهره، وتعلم الأجيال دروس التضحية والفداء.

قالت دائما إن فلسطين تستحق، وإن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وإن هذا الدرب هو درب العزة الذي لا مناص لنا من عبوره رغم حاجتنا الإنسانية للهدوء والأمن والاستقرار، وهو درب فُرض علينا حين داهم الغزاة بيوتنا واحتلوا أرضنا وشردوا شعبنا.

أم نضال، هي خنساء فلسطين، لكن في فلسطين جحافل من النساء اللاتي كنّ أكثر عطاء من الرجال. لقد كنّ أمهات الشهداء والأسرى وأخواتهم وزوجاتهم اللاتي تحملن المسؤولية بعدهم، وسرن على ذات الدرب، درب البطولة والتضحية وعلّمن أبناءهن أن فلسطين تستحق.

سلام عليك يا أمنا وأختنا وسيدتنا ورايتنا التي وقفت مثل سنديانه في وجه الغزاة، سلام عليك يا زينة نساء فلسطين، يا أم الشهداء والأبطال.

على مثلك تبكي فلسطين كما بكت أروع الشهداء. سلام عليك، يوم ولدت ويوم رحلت، ويوم تبعثين حيّة مع فلذات كبدك الشهداء، ومع أجمل الشهداء والنبيين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.