قبلنة الأحزاب
ما قاله ابن خلدون قبل قرون لا يستمد صدقيته من زمانه فقط، بل من ازمنة اخرى عبرها بحدسه ووعيه شأن كل المفكرين والفلاسفة الذين لا يتحولون الى رهائن لزمن او مكان محددين.
قال ان الطبع يغلب التطبع، وقد نجد مرادفا لهذه المقولة في ثقافات اخرى، سواء من خلال امثال شعبية منها الفرنسي الذين يقول اقشر الطلاء او الرخام كي يتصنع السخام، او الروسي الذي يقول اكشط جلد الروسي يخرج لك السلافي، او من خلال معالجات في علم النفس الاجتماعي.
وقبلنة الاحزاب قد تشمل الدولة ايضا في عالمنا العربي الذي دخل الى الحداثة وما بعدها متنكرا باقنعة يرتديها لكنه لا يملك الادوات التي تؤهله لهذا العبور فالاحزاب سرعان ما تتحول الى قبائل، وعلى طريقة غزية التي قال شاعرها انه يغزو ان غزت ويرشد ان رشدت، اي يلغي فرديته وذاته تماما ليصبح مجرد جمل في قافلة او رقم في تعداد. حتى الفصائل الفلسطينية تورطت بالقبلنة وتغليب الهوية الفرعية على الهوية الام، وما غذى الصراع وافشل معظم محاولات المصالحة والوئام الوطني هو هذه القبلنة على طريقة غزية وشاعرها.
الاندية الرياضية رغم صلتها بفعالية تحرر الانسان من الزنازين الورقية التي يسجن نفسه فيها تحولت الى قبائل بفضل فائض هذا الموروث وفي مصر يتوارث الابناء عن الاباء الانتماء الى هذا النادي او ذاك.
وهناك مباريات سال فيها دم اكثر من الدم الذي سال في حرب داحس والغبراء او حرب البسوس، لان مهارة اللاعب مطرودة من المعادلة لصالح النسب، والجيش الجديد الذي يسمى «التراس» هو تكريس لقبلنة النوادي واحيانا تتمدد هذه الثقافة الى نقابات ومؤسسات مدنية او تحمل شعارات مدنية، ذلك لان الطبع يغلب التطبع بالفعل.
حتى الشعراء العرب خصوصا التقليديون منهم ومن يبحثون عن سيف دولة يمنحهم ولاية او اقل من ذلك بكثير يكتبون في حروب الفانتوم والكروز والميراج والقبة الحديدية والسلاح النووي عن الخيل والرياح والدروع لكن قبلنة الاحزاب تبقى الاشد خطورة لانها تجهض اي حمل يبشر بمولود مدني وحديث يتناغم مع ايقاع هذا العصر.
هذا بالرغم من ان رابطة الحبر لا الدم هي التي تجعل من الحزب قبيلة وهمية، لهذا ما ان يرتطم كوزه بأية جرة حتى ينكسر.
عندما تسلم السادات السلطة في مصر انشأ حزبا لم يبق منه بعد رحيله غير عدد لا يكفي لجمعية خيرية او مجلس ادارة لناد رياضي، ثم اصبح عدد الحزب الوطني بعد ان تسلم مبارك الحكم يعد بالملايين لكنه ايضا تلاشى بعد غروب السلطة.
ان قبلنة الاحزاب تجعلها مجرد تجليات شكلية وعددية، وتعجز حتى عن تحقيق ايجابيات القبيلة وفضائلها.
والدول التي لم يستغرق تفكيكها غير ايام او شهور لا ندري كيف تشكلت وباية كيمياء؟ وبعض تلك الدول انهار باسرع مما فكك مهندسو الديكور المجسمات لافلام من طراز عمر المختار. ان للحداثة تعريفا اخر غير هذا الكاريكاتور وللدولة المدنية الحديثة اعمدة اخرى واثاف من طراز اخر، هي الاقانيم الصلبة لمكوناتها، بحيث يسقط عشرون نظاما على قشرتها ولا تسقط!!