حياد «الكُرْد» في الحسكة .. ما وراء الأكمة؟
مثير ولافت بل يدعو إلى الريبة، الموقف الذي اتخذته «الإدارة الذاتية الكردية»، في شمال سوريا والمُسمّاه في الأدبيات الكردية (روج آفا) أي كردستان الغربية، عندما قرّرت أن تقف على «الحياد» إزاء الهجمات المكثفة والضارية التي يَشُنّها تنظيم داعش على مدينة الحسكة السورية، والتي هي خليط ديموغرافي من قوميات متعددة يصعب القول انها كردية خالصة أو عربية لوجود شرائح وأعراق أخرى.. ما يثير الأسئلة الكبيرة حول الأهداف التي تقف خلف قرار مُريب كهذا، في وقت يعلم الجميع أن الهدف الثاني بعد الجيش السوري والقوات الشعبية التي تخوض القتال إلى جانبه، ستكون قوات الإدارة الذاتية نفسها، التي تُسيطر على أحياء المدينة لكنها (حتى الآن) بعيدة عن خطوط التماس وفي منأى عن قذائف ومفخخات وصواريخ داعش.
وإذا ما استندنا إلى التقارير «الطازجة» التي نشرتها صحيفة «تايمز» البريطانية، حول عمليات «التطهير العِرقي» التي يُمارسها الكرد ضد عشرات الآلاف من العرب في شمال شرقي سوريا، الذي أكدته الصحفية البريطانية العاملة في التايمز «لوسيندا سميث» حول تأكيد جمعيات حقوق الإنسان العاملة في المنطقة بأن ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردي تقوم بحرق قرى «العرب» بعدما سيطرت على بعض المناطق مؤخراً..، فإننا نكون أمام خطوات مدروسة بعمق ووفق أجندات زمنية تستند إلى دعم خارجي ليس من المغامرة القول أن عواصم دولية وأخرى إقليمية قد قدمته بأن قيام دولة كردية في الشمال السوري قد أصبح مسألة وقت، ولا بأس هنا من الاستفادة من قوة «داعش» لتحقيق هذا الهدف، ما دام يخدم هدفين، الأول هو إنهاك الجيش السوري واخراجه من تلك المناطق، والثاني استدراج داعش للوقوع في فخ قصف طائرات التحالف ومقاومة قوات حماية الشعب، على غرار ما جرى في عين العرب (كوباني) التي انتهت معركتها لصالح الكرد وخصوصاً في تعميق تحالفهم مع واشنطن، التي باتت تتبنى – وكما تؤكد التقارير – مسألة قيام دولة (أو دول كردية) في مناطق كردستان التاريخية الموزعة على أربع دول تبدو سوريا والعراق، «مؤهلتان» لانضاج فكرة كهذه، ووضعها موضع التنفيذ.
استمرار هجوم داعش على الحسكة ونجاح الجيش السوري والقوات المُساندة له في صدّ هذه الهجمات، واصرار كرد الإدارة الذاتية البقاء على الحياد أو فرض شروط تعجيزية على الجيش السوري، مقابل هذه المشاركة التي ستكون فيها قوة مساندة (أي في الخطوط الخلفية) وليس مُدافِعة او مُهِاجمة، يكشف بوضوح عن حجم المؤامرة ذات الرؤوس والاهداف المتعددة التي تلتقي في النهاية عند مشروع تقسيم سوريا واسقاط دولتها وتحويلها الى دويلات طائفية ومذهبية، تضع حداً لدورها الجيوسياسي وتشكّل في النهاية منصة لاطلاق المشروع الاستعماري الجديد الذي يتخفى خلف مقولة انتهاء مفعول سايكس بيكو وإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة، تنزع عنها عروبتها وتُحوِّلها الى اقليم جغرافي، تسكنه «شعوب» ذات هويات فرعية متشظّية، لن تنجح اللغة العربية وحدها (او حتى الرابطة الدينية) في تمتين لحمتها او توحيد اهدافها، وهي خطة تورطت فيها انظمة وتنظيمات ومنظمات عربية واسلامية عديدة.
وبصرف النظر عمّا يجري الان في ساحات القتال الممتدة على كامل الاراضي السورية والتي اتخذت في الآونة الاخيرة مسارات اكثر انكشافاً، وبدت وكأنها أخذت زخماً لم تكن تتوفر عليها قبل عدة اشهر، الأمر الذي تُرْجِم «إنجازات وانتصارات» ميدانية، في شمال وجنوب سوريا، على نحو انطلق بعض المتهورين او المخدوعين بالأوهام والخزعبلات الاعلامية لنعي النظام السوري واعتبار سقوطه مؤكداً، في استعادة رغائبية وواهمة لمقولاتهم المتهافتة التي اطلقوها عند بداية الاحداث في سوريا، ثم اكتشفوا لاحقاً انهم كانوا يُراهنون على السراب ووعود «الاصدقاء» التي لا رصيد لها على ارض الواقع.
هنا يخطئ كرد سوريا او كرد الادارة الذاتية، وخصوصاً قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) كثيراً وطويلاً، إذا ما اعتقدوا ان الاميركيين صادقون في وعودهم، وأنهم سيكونون (اشبين) الدولة الكردية العتيدة، وعليهم ان يستخلصوا دروس الماضي الكردي وعِبَرِه، منذ جمهورية مهاباد التي لم تعمر سوى «عام واحد»… حتى الان، وكانوا (الاميركان) على الدوام يخذلون الكرد ويتخلون عنهم عند اقرب منعطف يحقق لهم مصالحهم ولن تُفيد اسرائيل ايضاً هذه المرة، حيث يظن كرد سوريا ان تل ابيب هي الطريق الاقصر لواشنطن، إذ هناك كرد اقليم كردستان العراق الذين يناصبونهم العداء «الايديولوجي» ويتحالفون مع اعدائهم (تركيا) فضلاً عن عدم إدراكهم ان القرار-هنا والان-ليس في يد اميركا وحدها، لان عواصم اقليمية وازنة وذات تأثير وقوة ايضاً، لن «تهضم» فكرة دولة مستقلة في شمال سوريا، ما بالك ان في حِياد الكرد ازاء ما يجري في الحسكة، بعض الوهم المحمول على غطرسة وحسابات متسرعة (حتى لا نقول خاطئة)، وهي ضمان الانتصار «المُسْبَق» على داعش، في وقت يتمدد هذا التنظيم فيه ويأخذ مشروع دولته بُعداً غير خَفّي، يحظى بموافقة ضمنية من عواصم عربية، ترى فيه «سلاحاً» لتمرير مؤامرة تقسيم سوريا وتمزيق المنطقة العربية.