طارق
لم يحترم السجان شيبه , ولم يحترم تاريخه , تركه في سجن (الناصرية) يعاني المرض , مثله مثل أي سجين اخر , وجرده من أبسط حقوقه ..فكانت النهاية مؤلمة قاسية جدا .
غادر طارق عزيز الحياة أمس ,وطوى الصفحة على حقبة كان اخر رجالاتها ومع أنه لم يتورط بالدم , إلا أن الأيام كانت قاسية عليه , ومرت مثل السوط الذي يحفر كل يوم , جرحا جديدا في الجسد , ويصنع ألما جديدا …
مازلت أتذكر بغداد , في نهاية التسعينيات , حين كنا نغادرها على أمل العودة لها سريعا , وأتذكر طارق عزيز , وكيف كان موكبه يمر من شوارع (الكراده) وكيف كانت جامعات بغداد , تفتح ساحاتها له حين يأتيها محاضرا , مدافعا عن فلسطين , بكل ما تحمل القومية من إيمان …ما زلت أتذكر جولاته المكوكية في العالم , وتصريحاته على التلفاز , واللغة الإنجليزية التي …كان يتقنها بطلاقة وصوته الجهوري , والمقالات التي أخرجناها من الأرشيف وخبأناها للرجل , حين كان رئيس تحرير لجريدة الجمهورية العراقية .
في السنوات الأخيرة , من عمره …ظل أسير القضبان , لم تعد بغداد تحتضنه كما كانت , والأيام صارت عبئا عليه , وأظنه كان ينتظر الموت , كي يرتاح هذا الجسد المثقل بالحرب , والتعب ..من زمن لم يعد العراق فيه هو العراق , ولم تعد فلسطين عنوانا للمعركة , بل صارت الطائفية تارة ..عنوانا , وداعش عدوا , والنهر لم يعد ذاك النهر ,والوجوه التي تعبر الجسر لم تعد هي ذاتها الوجوه , وحتى النهار الذي يطلع على بغداد , صار قاسيا , ويحمل معه ..إما تفجيرا , وإما تشريدا ..وإما قسوة على الناس , وعلى النخل ..وعلى الحياة ذاتها .
أتذكر ما قاله بدر شاكر السياب عن العراق قبل رحيله , عن خارطة الشعر :- (شوق يخض دمي إليه كأن كل دمي إشتهاء)….وأجزم أن الأيام التي أمضاها طارق عزيز في السجن , كان الشوق فيها للعراق يخض كل قطرة من دمه وكل شهقة , وكل دمعة , ولكن قدره كان أن يمضي ما تبقى من السنوات , محاصرا ومنفيا ….ومسلوب الإرادة .
رحمك الله يا (أبا زياد) فالعراق لم يعد هو العراق …والعالم العربي صار يجر إلى مسلخ , تقطع فيه الرؤوس , وتغتال العواصم ..ويصبح الدم عطر صباحات الشعوب رحمك الله فقد كنت سيد الدبلوماسية العربية , وعميدها …
ولست أدري هل نرثيك أم نرثي العراق ؟