ناصر الدّين الأسد: قيمة إنسانية افتقدناها
قبل نحو 15 عاما كنت بمعية أستاذنا المرحوم ناصر الدِّين الأسد في اسطنبول ، وعلى درجات السلّم الذي يصعد الى أحد “المتاحف” اشتبكت يدا أستاذنا بأيدي الشيخ المعلم عبدالكريم الغرايبة والشيخ عزالدين التميمي قاضي القضاة رحمهما الله وأخذوا يرددون: نحن الشباب لنا الغد.. نحن الشباب. تذكرت أمس ذلك وأنا أودع أستاذنا الأسد الذي انتقل الى رحمة الله تعالى، ولأنني مدين للرجل بما أعجز عن البوح به هنا فقد اختلطت لدي مشاعر الإحساس بالفقد والحزن مع مشاعر الاعتزاز والتقدير، فهو -أولا – قيمة انسانية نادرة في هذا الزمن ، وهو – ثانيا – قيمة علمية واخلاقية تركت بصمتها في كل الميادين التي عمل بها، وبالتالي فإن رحيله يشكل افتقادا لقيم عزيزة نحن احوج ما نكون اليها الآن . حظيت على مدى اكثر من خمس سنوات بالعمل مع استاذنا المرحوم الأسد ، كان وقتها رئيسا للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية “مؤسسة آل البيت” ، وكنت مسؤول الإعلام في المؤسسة ، عرفته عن قرب وازدادت محبتي له وإعجابي بشخصيته ، وتعلمت منه ما لا يمكن ان أنساه ، من وضوح في التفكير والمنهج ، ودقة في الحديث والأسلوب والتناول ، ورقة في المشاعر ، وتواضع في التعامل ، وإخلاص في العمل ، وغير ذلك من القيم والسمات التي لا يمكن اختزالها في مقالة عاجلة . ارتبط أستاذنا بفكرة “التأسيس” فقد أسس في بداية الستينيات الجامعة الأردنية ، ثم أسس مؤسسة آل البيت ، وأسس أول جامعة خاصة ، وتولى تأسيس أول وزارة للتعليم العالي ، وقبلها كان أول من اسس المصادر والقواعد التي يرتكز عليها الشعر العربي ، حين ردّ نظرية طه حسين حول مصادر الشعر الجاهلي ، كما ارتبط اسمه “بالريادة” ، فقد تولى ادارة سلسلة طويلة من الحوارات بين المسلمين ، والحوارات بينهم وبين الكنائس المسيحية الغربية وهي اولى الحوارات التي سبق اليها بلدنا غيره من البلدان للتقريب بين اتباع الملة الواحدة ، أو لردم الفجوة بين المسلمين والمسيحيين على الطرف الاخر. تبدو سيرة أستاذنا -رحمه الله- العلمية والثقافية معروفة ، فقد كتب وألّف العشرات من الكتب والابحاث في مختلف نواحي الأدب والفكر والشعر ايضا ، كما كُتب عنه الكثير ، وحظي بسمعة عربية وعالمية واسعة ، وجرى تكريمه في الداخل والخارج على حد سواء ، لكن ثمة تفاصيل كثيرة لا يعرفها الكثيرون عن استاذنا منها ما يتعلق “بروح” الدعابة ومنها ما يتعلق بمواقفه الفكرية والسياسية وعلاقته مع “السياسة” واسرار غربته الاولى في مصر ثم في ليبيا ، ثم اسباب وظروف عودته لتأسيس الجامعة الأردنية بطلب من الشهيد وصفي التل حين كان رئيسا للحكومة ثم ما جرى بعد ذلك في محطات عمله الكثيرة. وكنت كلما التقيته “وأسرّ” لي ببعض الأحاديث والذكريات اكتبها ، حتى تجمعت لي أوراق كثيرة ، لم يحن وقت نشرها ، لكنها تتضمن جزءا من تجربة استاذنا ، وهي تجربة حافلة بالمواقف، وكنت أتمنى عليه آنذاك أن يكتب مذكراته او ذكرياته بقلمه، ولو فعل، لأهدى الى المكتبة العربية واحدة من ذخائرها النفيسة، ولوضع بين يدي أجيالنا تفاصيل مهمة لحقبة عايشها وشارك فيها، وكان شاهدا على بعض اسرارها واحداثها، وواحدا من فرسانها، لا في ميادين الفكر والثقافة والادب فحسب، حيث ما تزال كتبه ومؤلفاته فيها مراجع للباحثين، بل وفي ميادين أخرى من تجربته الطويلة في الحياة والعمل العام، وهي تجربة حافلة، تزاوجت فيها علاقة المثقف بالدبلوماسي، والعالم بالمؤسس، والمفكر بالإداري الناجح.. فصاحب كتاب “مصادر الشعر الجاهلي” ورفيق طه حسين حتى اواخر أيامه ومحمود شاكر وأمين الخولي وغيرهم من جيل رواد النهضة الفكرية، هو ذاته السفير والوزير والعين والمؤسس المدير لاكثر من جامعة ومؤسسة علمية ما تزال حية شاهدة في الاردن وخارجه. لكنه -رحمه الله- كان يعتذر دائما عن كتابة مذكراته ، ربما كان فيها من التفاصيل ما يخشى ان تحرج حياة آخرين كانوا شهودا على عصر كثرت تناقضاته واجتهاداته ، وربما دفعه التزامه بالمنهج العلمي الصارم الى تأجيل ذلك ، لا أدري لكن من يعرف المرحوم الأسد يفهم تماما كيف يتقدم العلماء بأخلاقهم لا بما اكتسبوا من علم ومال وشهرة. والدكتور الأسد -كما وصفته مي مظفر- جسر بين العصور، في الحوار الذي يجمع الأضداد، كما في اللغة الفصيحة الطازجة،التي يعشقها الاسد، فتعكس إذ تنساب رقراقة من لسانه ما في شخصية من عذوبة، لنشعر بذات “المرارة والحسرة” التي تعتصر قلبه، وهو يرى ما آلت اليه هذه المعشوقة على ألسنة المثقفين وعلى صفحات الكتب والجرائد، من ضعف لا يوازيه الا ضعف الأمة نفسها، وهو جسر بين العصور في الشخصية التي يلتقي فيها حماس الشباب بحكمة الشيوخ، كما في المنهج الذي يجمع الاصالة بالمعاصرة، او في التجربة التي تجسر بين الماضي الذي لا يجوز الكفر به، وبين المستقبل الذي يُحذِّر الأسد من خطر اليأس منه، او التفريط فيه. رحم الله ناصر الدِّين الأسد: الإنسان والعالم المستنير ، وأسكنه فسيح جنانه، و(إنا لله وإنا إليه راجعون)