الأردن ينتزع دورة جديدة لـ «دافوس»
وكالة الناس
لتفهم أجواء مؤتمر دافوس ثمة قصة يجب استيعابها بصورة جيدة، ففي نهاية الستينيات وقبل فورة النفط التي انطلقت بعد حرب 1973، كانت إمارة دبي تعاني من ضائقة مالية حرجة، ولذلك تواصل رجل الأعمال الإماراتي الشهير بالمليونير المصري محمد الفايد وذلك لتدبر قرض بقيمة مليون جنيه استرليني لاستكمال ميناء دبي، وتدبر الفايد من خلال علاقاته قرضا بقيمة تسعة ملايين جنيه أدى لدور مؤثر في استكمال ميناء دبي الذي أصبح نقطة الاستقطاب الأساسية للحركة التجارية التي أسست أسطورة دبي.
اختلف العالم خلال العقود الماضية، صحيح أن كثيرا من الرجال يلعبون الدور الذي أداه الفايد، ولكن المؤسسية أخذت تمثل التوجه الأساسي في أسواق الاستثمار، ولذلك كانت فكرة الملك عبد الله الثاني في توقيت أكثر من مناسب قبل نحو 12 عاما، فأجواء التفاؤل كانت تسود المنطقة، ولذلك تمكن الملك من إقناع منتدى دافوس المرموق بإقامة مؤتمره في الأردن، وتكرر النجاح السنة بعد الأخرى، خاصة أن غاية الاستضافة تتمثل في استقطاب الاستثمارات وليس القروض، وعادة ما يكون المستمثر أكثر طموحا وتطلبا من المقرض الذي يعتني فقط بقدرة المقترض على رد أمواله مع الفوائد المستحقة.
بالفعل تمكن الأردن من استقطاب العديد من الاستثمارات في ذلك التوقيت، صحيح أن معظمها كان موجها لغايات عقارية، ولكنها أسهمت في النهاية في إحداث حراك اقتصادي نشط، خاصة بالنسبة لبلد يفتقر للموارد الطبيعية وتتسم القوى العاملة فيه بعدم التنافسية من ناحية التكلفة.
النموذج الاقتصادي الأردني لا يمكن في ظل المعطيات السابقة أن يخرج عن إطار اقتصاد المعرفة والخدمات والسياحة، والتنافس على هذه المشاريع يتسم بكونه مسألة نوعية للغاية، فشركات النفط تستثمر أينما تواجدت الحقول النفطية، وشركات النسيج تحاول أن تكون قريبة من مزارعه في حال توفرت العمالة الرخيصة، أما التنافس في القطاعات المذكورة سابقا فهو مفتوح على مصراعيه، ونسبة النجاح تعتمد على الاستعداد لتقديم حوافز اقتصادية وضريبية جزيلة، وبالتالي، فإن البنية البيروقراطية في الأردن وصعوبة تأسيس الأعمال كانت تزيد من تعقيد الموقف، ولذلك كان على الأردن أن يسعى لتسويق نفسه بطريقة غير اعتيادية.
البحث عن المستثمرين مسألة صعبة ومكلفة للغاية، والملك سعى طويلا لأن يستثمر اسمه ومكانته كعامل جذب للاستثمار، ولكن الوقت كان عاملا مهما، ثم أن الزيارات الملكية التي تترافق عادة مع كثير من الأنشطة ذات الطابع الاقتصادي بقيت مرتهنة بأجندة متخمة على الصعيد المحلي والإقليمي، وتأسيس هيئة استثمارية قوية مسألة تحتاج إلى أموال طائلة وإمكانيات مهنية ربما ليست متوافرة بالصورة المناسبة في الأردن، ولذلك أتت فكرة المؤتمر لتستقطب رجال الأعمال من كل مكان في العالم، التكلفة مهما كانت كبيرة تبقى أقل من تكلفة مطاردتهم في عشرات العواصم.
دافوس أعطى الأردن في مرحلة ما، وما زال بإمكانه أن يمنحها فرصا جديدة، صحيح أن العديد من الضربات أثرت على التدفق الاستثماري للأردن والمنطقة العربية، ولكن الخيارات بالنسبة للأردن تبقى محدودة للغاية والانسحاب من ساحة الاستقطاب لا توجد له بدائل معقولة على الأقل في المدى القصير والمتوسط، فالدول العربية التي أهرعت لتتنافس في المنح والمشروعات لمصلحة مصر هي ذاتها الدول التي وضعت العديد من التحديات البيروقراطية أمام الأردن.
أتت الضربة الأولى في سنة 2008 مع الأزمة المالية العالمية، وأصبحت الدول المؤثرة في صياغة توجهات التدفقات الاستثمارية تدخل على الخط كمنافس للدول النامية، وشهد العالم تدفقا هائلا للأموال الخليجية لشراء الأصول في الدول الغربية وتملك الحصص في شركاتها، وقصة تدخل قطر لإنقاذ بنك باركليز ما زالت محلا لكثير من الجدل في مختلف الأوساط.
وكانت الضربة الثانية تتمثل في الربيع العربي، وانتقال المنطقة إلى فئة مخاطر عالية، ورأس المال الجبان بطبيعته يفضل دائما الانتظار في هذه الحالات، وحتى بعد أن تبدأ الأمور في التحسن فإن تركيزه يكون منصبا على إعادة الإعمار في المناطق المتضررة بصورة كبيرة، وذلك لاتساع هوامش الربحية المحتملة.
اقامة المؤتمر في هذه الدورة يعتبر انجازا في حد ذاته، وعلى جانب كبير من الرمزية، ويعطي رسالة واضحة بأن الأردن تمكن بالفعل من الخروج من محنة تحولات المنطقة، ليس لأنه أقوى من غيره ولكن لأنه لا يحمل نفس التاريخ والإرث المضطرب الذي تحملته أنظمة أخرى، وتعكس اقامة المؤتمر أيضا قناعة بأن الأردن يستطيع مواجهة التحديات في الأفق حتى لو تمكنت داعش من الوصول إلى مسافة قريبة جدا من بغداد.
ترتيبات المؤتمر من الملفات المناطة بالديوان الملكي، وعادة فإن الصحفيين يحضرون ضمن أنشطة المؤتمر ولا يعلمون عن الجهود التي بذلت في الاتصال والتحضيرات اللوجستية، ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة لنعرف أن الأردن لا يستضيف هذه الدورة بالمعنى التقليدي الذي كان يحدث في الدورات الماضية، وإنما ينتزعها في ظل ظروف حرجة ومعقدة، ويعطيه ذلك رصيدا من الثقة والسمعة الطيبة يحتاجها في هذا التوقيت.
على الأجندة الأردنية مشاريع كبيرة، أهمها قطاع الطاقة وقطاع البنية التحتية في مجال المواصلات، وعمليا، لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية في ظل الواقع الراهن لحلول المواصلات في المملكة، واستقطاب الاستثمارات لهذه القطاعات مسألة مهمة، إلا أنه على الحكومة أن تلعب دورها في المقابل، وأن تقبض على جميع الوعود والاتفاقيات المبدئية، وحتى الأفكار، وذلك من خلال المتابعة الحثيثة والجدية، فالحكومة لم تقدم شيئا يذكر كإضافة إلى رأس المال الوطني وركزت بصورة كبيرة على الأداء المالي قصير الأجل لتغطية المصاريف الجارية لجهازها وبرامجها.
المؤتمر يحمل رسالة مبطنة من المملكة إلى العالم الغربي، فإذا كانت الحرب على الإرهاب تعد من الأولويات في الغرب وتستهلك أموالا طائلة في الحروب والحلول الأمنية، فإن نموذج مواجهة الإرهاب من خلال توفير فرص العمل والحياة الكريمة يستحق بعضا من الانحياز، وربما لا يوجد مكان مؤهل أكثر من الأردن لتطبيق هذه التجربة والمضي قدما في هذا الخيار الشجاع.
الملك يؤكد من جديد أنه لن يسمح لتحديات المنطقة بتعطيل مسيرة الإصلاح، والحديث يشتمل على الإصلاح السياسي والاقتصادي، ولا نعلم إذا كانت الحكومة التي استرخت في الفترة الأخيرة حتى استدعت غضبة ملكية على أدائها الأمني تدرك هذه الحقيقة، وأنها تعتبر التحديات بمثابة الذريعة التي يمكن أن تختبئ وراءها في تملصها من استحقاقات الإصلاح بجميع وجوهه.
ما بعد دافوس سيمثل تحديا للحكومة الأردنية، والفشل هذه المرة ربما يستدعي تغييرات جذرية على شتى المستويات، وذلك لتوضيح وتشديد وتوحيد اللغة السياسية في المملكة