0020
0020
previous arrow
next arrow

المواطن الصالح

هناء موسى – فلسطين

نظر إلى صورته المعلقة على الحائط وابتسم ،ابتسامة غريب يلتقي لأول مرة بغريب ،فلم يعد يعرف نفسه …فهذا مؤكد ليس هو ..كأنه ونفسه لم يلتقيا قبلاً ،.يتطلع إلى الصورة إلى الوجه الدائري ذي العينين اللوزيتين الضيقتين والجبهة الكبيرة والشارب معتدل السواد … لا مؤكد ليس هو .. يشيح بوجهه كأنما يخجل من التحديق بغريب بتلك الطريقة … ثم يعود ينظر إلى الصورة عله يذكر أين التقى بالغريب ..ينظر إلى زاويتي فمه المنخفضتين، ذقنه المدببة المشقوقة .. كأنه يعرفه ….

يتناهى إلى سمعه صوت التلفاز في غرفة الجلوس حيث تتابع زوجته -التي باتت مؤخراً تعشق السواد أكثر من باقي الألوان – نشرة الخامسة ، يأتيه صوت المذيع كغراب ، بتنا لا نسمع سوى النعيق في هذه الأيام وباتت الأخبار والجرائد والمجلات والانترنت كلها مشروع نعي كبير ، يتساءل لماذا نظلم الغربان ما ذنب الرسول بسوء فحوى الرسالة.

“انظري يا أمي ..هل رسمتي جميلة ؟ يأتيه صوت ابنته ذات الخمسة أعوام تجلس بجوار أمها، الطفلة التي بالكاد تعرف مسك القلم لكنها لا تترك ألوانها الثلاث الأحمر والأسود والأخضر، ولا تكف عن رسم العلم والذي غالبا ما تخطيء بترتيب ألوانه ولا تكف أيضاً عن رسمَ يديْن تمثلان علامة نصر لا يدري ما سر ايمانها بالنصر ، يسخر من صورته على الأقل هناك أحد لم يستسلم بعد ، كيف يعيش فيها الأمل في بلد يسكنه كل هذا اليأس.. كيف يستطيع الصغار التفاؤل وسط كل هذه الهزائم لو أنا نجرؤ على الحياة بشجاعتهم ..

تدق أجراس ،فيتطلع من النافذه إلى الكنيسة ذات القباب الحمراء ،كل غروب يسمع أجراس كنيسة فيعلم أنه يصلب كل غروب مسيحاً جديداً يقوم حياً بعدها ..ويسائل نفسه لماذا لا يحيا في بلادي إلا شهيد لم يكن حيا قبل أن يموت ؟!

ثم يعود ينظر إلى صورته تكبر ابتسامته لنفسه عله يقنع الغريب بأنه أليف فيبدأ بينهما حوار ودي ينتهى بالتعارف وربما الصداقة .. والحقيقة أن فريد كان أليفاً جداً مع كل الناس ، مع زوجته النزقه التي لا تكف عن الشكوى من انشغاله بعمله ..معها حق فهو كان يعلم أنه يقصر بحقها وحق ابنته ، كان أليفاً مع رئيسه الذي يوكل اليه فوق مهامه مهام الآخرين التي لم تنجز، فقد كان يعلم أن فريد لن يرفض حتى لو ضحى بالعطل والاجازات وأوقات راحته ..وماذا كان سيفعل الرجل ان لم يجد من ينجز العمل … ومع البقال الذي كان يعلم أنه يسرقه في ثمن مشترياته التي قد تصل أحيانا إلى الضعف .. كان يقول لنفسه مبرراً ذلك، ربما رفعت الحكومة سعر المواد التموينية مجددا..ولم يعترض على الحكومة ..فحتما تعاني عجزا في الميزانية مجدداً، ولم يتعب نفسه في التفكير عن أسباب عجز الميزانية ..فمن المؤكد أنَّ الحكومة أدرى بمصلحة البلد وبكيفية الاهتمام باقتصاد البلد ..

حتى مع سائق التاكسي الذي كان يطلب منه زيادة على الأجر المعلوم كان أليفا لا يعترض ..فربما كان الرجل بحاجة ماسة للمال ..أما أرقام عداد الكهرباء الخيالية فحاشا لله أن يتململ منها أو يراجع البلدية مثلا رغم أنه كان يستدين ليسدد ثمن فواتيره ، فقد كان يدري أن البلدية هي أدرى بقيمة فواتيره، وهل هو أشطر من عداد الكهرباء حتى يصوب لهم … لم يعترض على الوجه الكشر الذي يقابله به زميله في العمل ولا على الابتسامة الساذجة التي يصفعه بها بواب العمارة الأمي ولا على النبرة الجافة التي تحدثه بها عاملة التلفون أثناء استفساره عن سبب قطع تلفونه والتي تنهي المكالمة و يظل بعدها جاهلا للسبب مؤكدا لنفسه حتما هناك أسباب وجيهة لذلك …كان فريد فخرا لأي شركة لأي مؤسسة لأي دولة مواطنا نموذجيا يجد المبررات لكل العراقيل والمشاكل التي تحيط به ، حتى على موجة الحر لم يعترض، مؤكد أنَّ الطقس له أسبابه …

طوال حياته كان صامتا لماذا يأمل الآن أن تكلمه صورته ، صوت آخر يتناهى إلى مسمعه .. ي..س..ق..ط …يسقط النظام ، تسقط الحكومة ينظر من النافذه إلى الحشد الكبير يمرون من أمام عمارته يقول لنفسه مؤكد لديهم أسبابهم للتظاهر … ثم يعود ينظر إلى صورته التي يحيط بها الشريط الأسود مرة أخرى أخيرة علها تنطق فلا تنطق …….