المثقف وحقل الألغام
استعير هذا العنوان من المستشار محمد سعيد العشماوي الذي التقيته قبل عشرة أعوام على الأقل في القاهرة، وكان الرجل يومئذٍ حديث المثقفين بسبب ما تعرّض له من سوء فهم لدى أصوليين، مما اضطره الى ان يقيّد خطواته خشية مما حدث من قبل للراحلين نجيب محفوظ و د . فرج فودة وآخرين . تلك العبارة وردت في كتابه الاسلام والسياسة الذي يدافع فيه عن الاسلام بطريقته، وليس بالاسلوب الذي يضاعف من سوء الفهم، فهل كان قدر المثقف العربي ان يقطع عمره وأيامه كلها كما لو انه محاط بالالغام ؟ وهل كان التكفير وما يزال العقوبة الجاهزة لمن يقترف التفكير باعتباره خروجا عن الجماعة . ان هذا القدر الذي امتاز به المثقف العربي رغم كل الشقاء والحذر حرمنا من اطروحات حرة، تحاول انقاذ الدّين مما علق به من شوائب وبدع وهي كثيرة ، وبالرغم من ان المستشار العشماوي ناقش مؤلفات استشراقية وكأن له موقفا صريحا منها ككتاب مكسيم رودنسون عن الاسلام الا انه لم ينجُ من التقويل الذي يتجاوز كل حدود وامكانات التأويل، وما يقوله عن الألغام التي تحاصر المثقف في كل الجهات يذكرنا بما كتبه الروائي كونديرا تحت عنوان عقاب يبحث عن جريمة، فثمة مجتمعات يولد فيها الانسان متهما وعليه ان يبرهن على براءته، فكل شيء قابل للتقويل، حتى الصمت والنوايا تجد من يتطوعون لترجمتها . كيف يمكن لأمة ان تعاود النهوض بعد كل تلك الكبوات، إذ كان المتربصون والصيادون في المرصاد، يقرأون ما يودون فهمه فقط، ثم يمارسون الاستعداء الفكري شعبيا ورسميا بعد ان اصبح هذا الاستعداء مهنة . وقبل ان يكتب المستشار العشماوي عن الاسلام والسياسة وحق التفكير بعدة عقود كتب الامام محمد عبدة قصيدة تبدو كما لو انها كُتبت الان، فهو يحذر المسلمين فيها من غُلاتهم ومن عمائم قد تُسيء الى العقيدة وهي تدري او لا تدري، لأنها تسعى الى تضييق آفاق رحبة، وتحول التسامح والدعوة الى التعايش الى اقصاء متبادل ونبذ لا بد ان ينتهي الى نزاعات، لا يحزر هؤلاء او حتى غيرهم مداها ! وما يؤكد ان المثقف العربي يقطع عمره في طريق يعجّ بالالغام، الافراط في الاستدراكات والمبالغة في تبديل ما يمكن ان يُثار من شكوك، فما تعرض له مفكرون اسلاميون منذ النهضة في القرن التاسع عشر تحوّل الى فوبيا، ما يغيب عنا احيانا ان الحذر المبالغ فيه يؤدي الى تعثر وقد يخلق مناخات من الريبة . لقد عاشت الفلسفات والعقائد كل هذه القرون واحيانا الألفيات بفضل من سعوا الى توسيع آفاقها والدفاع عن جوهرها ضد الشعرنة والتطقيس والغلوّ!